قوله تعالى:{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
كلا: زجر عن التلهي والتكاثر المذكور ،وسوف تعلمون: أي حقيقة الأمر ،ومغبة هذا التلهي ،ثم كلا سوف تعلمون ،تكرار للتأكيد .
وقيل: إنه لا تكرار ،لما روي عن علي رضي الله عنه: أن الأولى في القبر ،والثانية يوم القيامة .وهو معقول .
واستدل به بعضهم على عذاب القبر .
ومعلوم صحة حديث القبر"إنما القبر روضة من رياض الجنة ،أو حفرة من حفر النار ".
والسؤال فيه معلوم ،ولكن أرادوا مأخذه من القرآن .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه في الكلام - على سورة غافر ،عند{وَحَاقَ بآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ،إثبات عذاب القبر من القرآن .
وكذلك بيان معناه في آخر سورة الزخرف عند الكلام على قوله تعالى:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وهذا الزجر هنا والتحذير لهم رداً على ما كانوا عليه في التكاثر .
كما قال الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاثر
وأصرح دليل لإثبات عذاب القبر من القرآن ،هو قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ،لأن الأول في الدنيا ،والثاني في الآخرة .
قوله تعالى:{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} .
لو: هنا شرطية ،جوابها محذوف باتفاق ،قدره ابن كثير: أي لو علمتم حق العلم ،لما ألهاكم التكاثر عن طلب الآخرة ،حتى صرتم إلى المقابر ،وعلم اليقين: أجاز أبو حيان إضافة الشيء لنفسه ،أي لمغايرة الوصف ،إذ العلم هو اليقين ،ولكنه آكد منه .
وعن حسان قوله:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم *** لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
ولترون الجحيم: جواب لقسم محذوف .
وقال: المراد برؤيتها عند أول البعث ،أو عند الورود ،أو عند ما يتكشف الحال في القبر .
ثم لترونها عين اليقين:
قيل: هذا للكافر عند دخولها ،هذا حاصل كلام المفسرين .
ومعلوم أن هذا ليس لمجرد الإخبار برؤيتها ،ولكن وعيد شديد وتخويف بها ؛لأن مجرد الرؤية معلوم .
وإن منكم إلا واردها ،ولكن هذه الرؤية أخص ،كما في قوله:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} ،أي أيقنوا بدليل قوله:{وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} .
وقد يبدو وجه في هذا المقام ،وهو أن الرؤية هنا للنار نوعان:
الرؤية الأولى: رؤية علم وتيقن ،في قوله:{لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} علماً تستيقنون به حقيقة يوم القيامة لأصبحتم بمثابة من يشاهد أهواله ،ويشهد بأحواله ،كما في حديث الإحسان:"أَن تعبد الله كأنك تراه ".
وقد وقع مثله في قصة الصديق لما أخبر نبأ الإسراء ،فقال:"صدق محمد ،فقالوا: تصدقه وأنت لم تسمع منه ؟قال: إني لأصدقه على أكثر من ذلك ".
فلعلمه علم اليقين بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يخبر ،صدق بالإسراء كأنه يراه .
وتكون الرؤية الثانية ،رؤية عين ومشاهدة ،فهو عين اليقين .
وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث: علم اليقين ،وعين اليقين ،وحق اليقين .
فالعلم: ما كان عن دلائل .
وعين اليقين: ما كان عن مشاهدة .
وحق اليقين: ما كان عن ملابسة ومخالطة ،كما يحصل العلم بالكعبة ،وجهتها فهو علم اليقين ،فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها ،فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها .واللَّه تعالى أعلم .