وكذلك في هذه الآية:{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [ الصف: 12 -13] .
وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر ،كما في قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [ البقرة: 16] .
حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته .
وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها "والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قول الشاعر:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم *** فإن شربت الحلم بعدك بالجهل
وقول الآخر:
بدلت بالجمة رأساً أزعرا *** وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
فأطلق الشراء على الاستبدال .
تنبيه:
في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى:{وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [ الصف: 11] .
وفي آية إن الله اشترى من المؤمنين ،قدم النفس عن المال فقال{اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [ التوبة: 111] ،وفي ذلك سر لطيف .
أما في آية الصف ،فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله .
وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة ،والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش .وهو أهم من الجهاد بالسلاح ،فبالمال يشترى السلاح ،وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية ،وبالمال يجهز الجيش ،ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء ،وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم ،وأعذر معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى:{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} إلى قوله:{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [ التوبة: 91 -92] .
وكذلك من جانب آخر ،قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء ،كما قال صلى الله عليه وسلم:"من جهز غازياً فقد غزا ".
أما الآية الثانية ،فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة ،فقدم النفس لأنها أعز ما يملك الحي ،وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب ،وأحسن ما قيل في ذلك .
أثامن بالنفس النفيسة ربها *** ليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها *** بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها *** لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
فالتجارة هنا معاملة مع الله إيماناً بالله وبرسوله وجهاد بالمال والنفس ،والعمل في ذلك:
الصالح ،كما قيل أيضاً:
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العمل
وفي آية{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [ التوبة: 111] تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله:{فَيَقْتُلُونَ} بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم{وَيُقْتَلُونَ} بالبناء للمجهول ،لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم ،ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر ،والعلم عند الله تعالى .