قوله تعالى:{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ والليل إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} .
ظاهر قوله تعالى:{فَلاَ أُقْسِمُ} نفى القسم ،ولكنه قسم قطعاً ،بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} .
وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة القيامة{لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
ومثل الآتي{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
تنبيه
يجمع المفسرون أن للَّه تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ،لأنها دالة على قدرته ،وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى .
ولكن هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود ،أم لمجرد الذكر ،وتعدد المقسم به ؟
وبعد التأمل ،ظهر والله تعالى أعلم ،أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ،إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ،يكون بين المقسم به ،والمقسم عليه مناسبة وارتباط ،وقد يظهر ذلك جلياً ،وقد يكون خفياً .
وهذا فعلاً ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ،وإن كنت لم أقف على بحث فيه .
ولكنَّ مما يشير إلى هذا الموضوع ،ما جاء بالإقسام بمكة مرتين ،وفي حالتين متغايرتين .
الأولى: قوله تعالى:{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ 1 وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ 2 وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ 3 لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في كَبَدٍ} .
والموضع الثاني: قوله تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ 1 وَطُورِ سِينِينَ 2 وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ 3 لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
فالمقسم به في الموضعين: مكة المكرمة ،والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ،ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ،إلى كده في حياته ،إلى نهايته ومماته .
من ذلك مكابدته صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ،ولحقت به أمه ،وهو في طفولته ،وبعد الوحي كابد مع قومه ولقي منهم عنتاً شديدًا ،حتى تآمروا على قتله ،فلكأنه يقول له: اصبر على ذلك ،فإن المكابدة لا بد منها ،وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك .
وفي ذكر{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} إشعار ببدء المكابدة ،وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ،ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف .
أما في الموضع الثاني: فالمقسم عليه ،وإن كان هو خلق الإنسان ،إلا أنه في أحسن تقويم ،وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضاً للنعم ،وتعددها من التين والزيتون ،سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ،وهو بيت المقدس مع طور سينين .
فجاء بمكة أيضاً ولكن بوصف مناسب فقال:{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} ،فكأنه يقول: إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة ،أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته .والله تعالى أعلم .
وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال ،في ظهورها واختفائها وجريانها ،وبالليل إذا عسعس: أقبل وأدبر ،أو أضاء وأظلم ،} والصبح إذا تنفس{: أي أظهر وأشرق ،وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها .
والمقسم عليه: هو أن القرآن قول رسول كريم كأنه يقول: إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور ،وحال الناس معه .كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة ،واختفائها أخرى .
وكحال الليل والصبح فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره ،قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به ،فهو لهم روح ونور ،وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم عمى عنه بصائرهم ،وفي آذانهم وقر ،وهو عليهم عمى ،وأناس تارة وتارة كالنجوم أحياناً ،وأحياناً ،تارة ينقدح نوره في قلوبهم ،فتظهر معالمه فيسيرون معه ،وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم ،كما قال تعالى عنهم:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} .
وليس بعيداً أن يقال: إنه من وجه آخر ،تعتبر النجوم كالكتب السابقة ،مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها .
والليل إذا عسعس: هو ظلام الجاهلية .
والصبح إذا تنفس: يقابله ظهور الإسلام ،وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار ،ولا تقوى قوة قط على حجبه ،وسيعم الآفاق كلها ،مهما وقفوا دونه{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس ،ولاسيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه ،ولا توجيه يشير إليه ،ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ،وجدير بأن يفرد برسالة .
ومما أطرد فيه هذا التوجيه سورة الضحى ،يقول الله تعالى:{وَالضُّحَى 1 والليل إِذَا سَجَى 2 مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ،فإن المقسم عليه عدم تركه صلى الله عليه وسلم ولا التخلي عنه ،فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلاً ونهاراً ،كأنه يقول له: ما قلاك ربك ولا تخلى عنك ،لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك ،ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك .
ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب حينما كان يجعله ينام مع أولاده ليلاً ،حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه .ويضع أحد أولاده محله ،حتى لو كان أحد نواه بسوء ،وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده ،ويسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأَولَى 4} ،أي من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل .
ومنه أيضاً: وهو أشد ظهوراً في سورة العصر قال تعالى:{وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ،إلى آخر السورة .فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان ،الغالية عليه من خسر ،إلاَّ من استثنى الله تعالى ،فكان المقسم به ،والعصر المعاصر للإنسان: طيلة حياته وهو محل عمله ،الذي به يخسر ويربح .وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه .
وكنت قد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء ،وذكر قوله تعالى:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءكم النَّذِيرُ} ،فجعل في الآية التعمير ،وهو إشغال العمر موجباً للتذكر والتأمل ،ومهلة للعمل ،كما تخبر إنساناً بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به ،فهو أمكن في الحجة عليه .
فكان القسم في العصر على الربح والخسران ،أنسب ما يكون بينهما ،إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان .كما قال تعالى:{هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 10 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وفي الحديث الصحيح عند مسلم:"سبحان الله تملأ الميزان ،وفيه كل الناس يغدو ،فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها "،فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح ،وأعتق نفسه وإلاَّ فقد خسر وأهلكها} .
ويشير لذلك أيضاً قوله تعالى:{* إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} .
فصح أن الدنيا سوق ،والسلعة فيها عمل الإنسان ،والمعاملة فيه مع الله تعالى ،فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به ،والمقسم عليه .