ويكون الاستثناء ( إلا الذين آمنوا ) فإنهم لا يصلون إلى حالة الخوف وأرذل العمر ،لأن المؤمن مهما طال عمره ،فهو في طاعة ،وفي ذكر الله فهو كامل العقل ،وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته ،لا يصاب بالخرف ولا الهذيان .
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر ،لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير ،وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن ،ويعلمهم القراءات العشر ،وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع .
وقد روى الشوكاني مثله ،عن ابن عباس أنه قال ،ذلك .
قوله تعالى:{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم .
وعلى الأول: فالأجر هو الثواب ،إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم ،وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعلمونه في حال قوتهم من صيام وقيام ،وتصدق من كسبهم ونحو ذلك ،للأحاديث في حق المريض والمسافر ،فيظل ثواب أعمالهم مستمراً عليهم غير مقطوع .
وعلى الثاني: فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمنّ به عليهم ،ولا يقطع عنهم كما قال تعالى:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} .
تنبيه
وهنا وجهة نظر من وجهين: وجه خاص وآخر عام .
أما الخاص: فإن كلمة رددناه ،فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق ،والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم ،وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه ،أي جسمه وإنسانيته ،فرده إلى أسفل سافلين ،يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركاً من الحيوان ،وأشرس نفساً من الوحش ،فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه ،فيكون طاغية جباراً يعيث في الأرض فساداً ،وعليه يكون الاستثناء( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ،فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة ،ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون .
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4 ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ 5 إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} .
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله:{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه ،وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه ،حتى مرّ بشجرة التين فأعطته ،فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة ،وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم .
وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق .فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:"لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر ،فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه ".
قال: وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال:"كان لباس آدم وحواء كالظفر "وذكر الأثر ،( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) قال: ينزعان ورق التين ،فيجعلانه على سوأتهما .
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم ،ثم رده أسفل سافلين إلاَّ الذين آمنوا سر لطيف جداً ،وهو إشعار الإنسان الآن أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر ،وقد خلقه الله في أحسن حالة حساً ومعنى ،حتى رفعه إلى منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة ،فهي أعلى منزلة التكريم ،وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ،ولا يظمأ فيها ولا يضحى ،وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه الشيطان ونسي عهد ربه إليه ،ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان ،فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ،فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز ،حتى يجد لقمة العيش ،فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين .
وهذا شأن أهل الأرض جميعاً ،إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ،فلهم أجر غير ممنون ،برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة ،فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ،ثم اجتباه ربه ،فتاب عليه وهدى .
وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى ،لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمناً كصورة الآمن في الجنة ،فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن ،وإن تمردوا وعصوا ،فيخرجون منها ويحرمون أمنها .
وهكذا تكون السورة ربطاً بين الماضي والحاضر ،وانطلاقاً من الحاضر إلى المستقبل ،فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين .فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك ،حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد ،وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر ،اللَّهم بلى .