الذي يظهر أن جملة{ ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله} معطوفة على جملة{ أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى}[ طه: 133] ،وأنّ المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنّهم ضالّون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوه متوقفاً على أن يأتيهم بآية من ربّه ،لأنّ ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بيّن قد حَجَبتْ عن إدراك فساده العادَات واشتغال البال بشؤون دين الشرك ،فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلاّ بعد أن أرسل إليهم رسولاً يوقظ عقولهم .فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه ،فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سُلّم لهم جدلاً أن ما جاءهم من البيّنة ليس هو بآية ،فقد بطل عذرهم من أصله ،وهو قولهم{ ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك} .وهذا كقوله تعالى:{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة}[ الأنعام: 156] .فالضمير في قوله{ من قبله} عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه ،أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بيّنة ،أو على إتيان البيّنة المأخوذ من{ أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى}[ طه: 133] .
وفي هذه الآية دليل على أنّ الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى ،وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر ،وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولاً ،وأنّ قريشاً كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
ومعنى{ لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً}: أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض ،لأنّ الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة .
و ( لولا ) حرف تحضيض ،مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنّه قد فات وقت الإرسال ،فالتقدير: هلاّ كنت أرسلت إلينا رسولاً وانتصب{ فنتبع} على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى .
والذل: الهوان .والخزي: الافتضاح ،أي الذل بالعذاب .والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام{ ولا تخزني يوم يبعثون}[ الشعراء: 87] .