إضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحراً .
وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيماً لشأنه .ومعنى إتيانه بالسحر: إحضار السحرة بين يديه ،أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر ،إذ السحر لا بد له من ساحر .
والمماثلة في قوله{ مِثْلِهِ} مماثلة في جنس السحر لا في قوته .
وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه: أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياساً منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم ،يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه ،أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكاً عليهم وتخرجني من أرضي .فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة ،لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم .
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملاً في الجماعة تغليباً ،ونزّل فرعون نفسه واحداً منها .وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى{ فأرسِلْ معنا بني إسرائيل}[ طه: 47] ،أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك .
والاستفهام في{ أجِئْتَنَا} إنكاري ،ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله ،والقسم من أساليب إظهار الغضب .
واللام لام القسم ،والنون لتوكيده .وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق ،لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر .
وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره .
والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي ،أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد ،وهذا إيجاز في الكلام .
وقوله{ مكاناً} بدل اشتمال من{ موعداً} بأحد معنييه ،لأنّ الفعل يقتضي مكاناً وزماناً فأبدل منه مكانُه .
وقوله{ لا نُخْلِفُهُ} في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل{ موعداً} باعتبار معناه المصدري .وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من ( نخلفْه ) على أن ( لا ) ناهية .والنهي تحذير من إخلافه .
و{ سِوىً} قرأه نافع ،وابن كثير ،وأبو عمرو ،والكسائي بكسر السين .وقرأه عاصم ،وحمزة ،وابن عامر ،ويعقوب ،وخلف بضم السين وهما لغتان ،فالكسر بوزن فِعَل ،قال أبو عليّ: وزن فِعَل يقلُّ في الصفات ،نحو: قوم عِدىً .وقال أبو عبيدة ،وأبو حاتم ،والنحاس: كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة ،وهو اسم وصف مشتق من الاستواء: فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين .وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي:
وإن أبانا كانَ حلّ ببلدة *** سِوىً بين قيسسٍ قيس عيلان والفِزْر
( الفِزر: لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء ) .
والمعنى: قال مجاهد: إنه مكان نصف ،وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة .وعن ابن زيد: المعنى مكاناً مستوياً ،أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين ،أراد مكاناً منكشفاً للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة .