إسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مُقدّره وخالقُ أسبابه البعيدة .وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله{ وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم .
و{ السَّامِرِيُّ} يظهر أن ياءه ياء نسبة ،وأن تعريفه باللاّم للعهد .فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر ؛فالسامريّ نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سَامِر ،وقد كان من الأسماء القديمة ( شُومر ) و ( شامر ) وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب .وفي « أنوار التنزيل »: « السامريّ نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة » اهـ .أخذنا من كلام البيضاوي أن السامريّ منسوب إلى قبيلة وأما قوله « من بني إسرائيل » فليس بصحيح .لأنّ السامرة أمّة من سكان فلسطين في جهة نَابلس في عهد الدولة الروميّة ( البيزنطية ) وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثمّ امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود .فليس هو منسوباً إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأنّ مدينة السامرة بناها الملك ( عَمْري ) ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح .وجعلها قصبة مملكته ،وسماها ( شوميرون ) لأنّه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه ( شَامر ) بوَزْنتَين من الفضة ،فعُرّبت في العربية إلى سامرة ،وكان اليهود يَعُدونها مدينة كفر وجور ،لأنّ ( عمري ) بانيها وابنه ( آخاب ) قد أفسدا ديانة التّوراة وعبدا الأصنام الكنعانية .وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما ،فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام .
ويحتمل أن يكون السامريّ نسباً إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر ،كما قال بعض أهل التفسير ،فيكون فتى قبطياً اندس في بني إسرائيل لتعلّقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم .وعن سعيد بن جبير: كان السامريّ من أهل ( كرمان ) ،وهذا يقرّب أن يكون السامريّ تعريبَ كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب .
ويجوز أن تكون الياء من السامريّ غير ياء نسب بل حرفاً من اسم مثل: ياء عليّ وكرسيّ ،فيكون اسماً أصلياً أو منقولاً في العبرانية ،وتكون اللاّم في أوّله زائدة .
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطاً من القصة: أن السامريّ اسمه موسى بن ظَفَر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خَاله ،وأنه كفَر بدين موسى بعد أن كان مؤمناً به ،وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئزّ النفس منها .
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضاً السامرة ،لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهوديّة في أصول الدّين ،فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع ،وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلاّ من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنيّة على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخّص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصْهار ملوكهم ،ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح ،وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم .
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلّة كبرى ،إذ زعموا أنّ هارون صنع العجل لهم لمّا قالوا له: « اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنَع لهم عجلاً من ذهب » .وأحسب أنّ هذا من آثار تلاشي التّوراة الأصلية بعد الأسر البابلي ،وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة .ومما نقطع به أنّ هارون معصوم من ذلك لأنه رسول .