قوله تعالى:{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ 85} .
الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل ؛فهي فتنة إضلال .كقوله:{إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تشاء وَتَهْدِى مَن تشاء} .وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة ؛كقوله:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ 51} ونحو ذلك من الآيات .
قوله هنا:{وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ 85} أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع ؛كقوله:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ}إلى قوله{اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ 148} أي اتخذوه إلهاً وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته .وقوله هنا{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىّ 87ُفَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هذا إلهاكم وإله مُوسَى فَنَسِىَ 88} والسامري: قيل اسمه هارون ،وقيل اسمه موسى بن ظفر ،وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر .وقيل: كان رجلاً من القبط ؛وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه .وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام .قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان .والفتنة أصلها في اللغة: وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف .وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة: ( منها ) الوضع في النار ،كقوله{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ 13} أي يحرقون بها ،وقوله{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية ؛أي أحرقوهم بنار الأخدود .( ومنها ) الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة ؛كقوله{أنما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} الآية ،وقوله{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم ماء غَدَقاً 16 لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} .( ومنها ) نتيجة الاختيار إذا كانت سيئة .ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك ،كقوله{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ،وقوله هنا{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} الآية .( ومنها ) الحجة ،كقوله{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ 23} أي لم تكن حجتهم .
وقوله تعالى في هذه الآية:{وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ 85} أسند إضلالهم إليه ،لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل ،فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار ،كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة:{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ 87 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ،وقال في «الأعراف »{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} الآية .والخوار: صوت البقر .قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم ،وهذا هو ظاهر قوله{عِجْلاً جَسَداً} .وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحما ولا دما ،ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل .والأول أقرب لظاهر الآية ،والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحما ودما ،كما جعل آدم لحما ودما وكان طيناً .