قوله تعالى:{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل .
وقوله{أَسَفاً} أي شديد الغضب .فالأسف هنا: شدة الغضب ،وعلى هذا فقوله{غَضْبَانَ أَسِفاً} أي غضبان شديد الغضب .ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في «الزخرف »{فلما ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ 55} أي فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم .وقال بعض العلماء: الأسف هنا الحزن والجزع ؛أي رجع موسى في حال كونه غضبان حزيناً جزعاً لكفر قومه بعبادتهم للعجل .وقيل: أسفاً أي مغتاظاً .وقائل هذا يقول: الفرق بين الغضب والغيظ: أن الله وصف نفسه بالغضب ،ولم يجز وصفه بالغيظ ؛حكاه الفخر الرازي .ولا يخفي عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية ،لأنه راجع إلى القول الأول ،ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور .
وقوله{غَضْبَانَ أَسِفاً} حالان .وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً ؛كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد *** لمفرد فاعلم وغير مفرد
وما ذكره جل وعلا في آية «طه » هذه من كون موسى رجع إلى قومه{غَضْبَانَ أَسِفاً} ذكره في غير هذا الموضع ،وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور ،كقوله في «الأعراف »:{وَلَما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَما خلفتموني مِن بَعْدِى} الآية .وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة ،وأخذه برأس أخيه يجره إليه ،كما قال في «الأعراف »:{وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ،وقال في «طه » مشيراً لأخذه برأس أخيه:{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بلحيتي وَلاَ برأسي} .وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان ،لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله:{قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ 85} وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح ،ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك ،فألقى الألواح حتى تكسرت ،وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى .
وقال ابن كثير في تفسيره في سورة «الأعراف »: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا عفان ،حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ،أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ،فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح » .
قوله تعالى:{قَالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ موعدي 86 قَالُواْ ما أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} .
ذكر جل في هذه الآية الكريمة: أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه ،ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم:{يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} .
وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا والآخرة .وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى:{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيمن} الآية ،وفيه أقوال غير ذلك .
وقوله:{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} الاستفهام فيه للإنكار ،يعني لم يطل العهد ؛كما يقال في المثل: ( وما بالعهد من قدم ) ؛لأن طول العهد مظنة النسيان ،والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم ؟
وقوله:{أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} قال بعض العلماء: «أم » هنا هي المنقطعة ،والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ،ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم .فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه ،وهو الكفر بعبادة العجل .
وقوله:{فَأَخْلَفْتُمْ موعدي 86} كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات ،وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى ؛فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى ؛فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره .