{ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربّكم فأخلفتم موعدي 86} .
"الفاء"تفيد الترتيب والتعقيب ، ففور أن بين الله تعالى ما كان بقومه رجع إليهم في حال غضب وحزن ، ولذا قال تعالى:{ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} والقوم هنا هم الإسرائيليين جميعا الذين كان منهم الذين عبدوا العجل ولم يكونوا عددا قليلا ، بل كانوا كثيرين ، وإن لم يكونوا الأكثرين ، والغضب هو الثورة النفسية للمفاجأة بأمر مؤلم لم يكن يتوقعه ، والأسف:الحزن الذي يسكن النفس بسبب أمر غير مقبول ، ولا يوجد له أي مبرر ، والحزن من شأن أن يوجد في النفس كآبة ، وهمّا وغمّا ، وكذلك كانت حال موسى عليه السلام عندما علم من ربه أن قومه عبدوا العجل ، ولكن الحكمة النبوية توجب ألا يسترسل في الكآبة والغم ، والانفعال ، بل لا بد أن يعالج الموقف باستنكار شديد وحزم الشر واجتثاثه من أصله ، وكذلك فعل ، فقال لائما مستنكرا:
{ يا قوم} هذا نداء مقرب بأنه منهم يؤلمه ما يضلهم ، ويفرحه ما يكون خيرا لهم{ ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا} أي ألم يعدكم ربكم بخيري الدنيا والآخرة ، وهو وعد حسن يطمئنكم في حاضركم وقابلكم ، ولم يذكرهم بحاضرهم الذي هم فيه ، وما كانوا عليه في الماضي ، وحتى لا يصل اللوم إلى المجافاة ، ولأن ذلك إنعام عليه وعليهم ، ومنزل النعم وهو الله تعالى هو الذي يذكرهم بذلك .
وقوله تعالى:{ ألم يعدكم ربكم} استفهام إنكاري ، أي لقد وعدكم ربكم وعدا حسنا مع التنديد الحفي ، وعبر ب{ ربكم} للإشارة إلى أنه وعد محقق لا محالة . لأنه وعد من الله ربكم الذي خلقكم ، وهو القيوم على كل أمروكم ومالكم نسيتم هذا الوعد{ أفطال عليكم العهد} العهد أي الزمن ، و"الفاء"هنا سببية ، والمعنى فأطال عليكم الزمن فنسيتم الوعد الذي وعده الله ، والمعنى أبسبب طول الأمد نسيتم وعد ربكم ؟ وهو توبيخ شديد ، فإن الزمن لم يطُل ، بل كانت الأحداث متلاحقة لا تراخي فيها حتى يكون النسيان ، فقد أنجاكم ربكم ، وأغرق فرعون ، ثم كان الوعد من الله باللقاء ، وكانت فتنة العجل على قرب من ذلك .
ثم كانت الجملة الاستفهامية المعادلة{ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي} نزل بهم ، رفقا بهم من المعاندة لله تعالى ، وهي مرتقى صعب لا يريد أن يكونوا فيه ، إلى المعاندة له هو ، وسارع فتبين أنها هي الأخرى ، مغاضبة لله تعالى ، لأنه عليه السلام لا يتكلم إلا عن الله ،{ أم} استفهامية للمعادلة ، و{ أردتم} هنا ليست متجهة إلى أن يحل بهم غضب من ربهم ، إنما إرادتهم منصب على السبب الذي يفضي إلى حلول غضب الله تعالى عليهم . وفي هذا إشارة ليست خفية إلى أن ما ارتكبوه من عبادة العجل إغضاب لله تعالى ، وكفر به ، وإن ذلك يؤدي لا محالة إلى أن يحل بهم غضب الله تعالى ، وعبر عن الذات العلية بقوله:{ من ربكم} إشارة إلى أنه هو الذي نجاهم من فرعون وأغرقه ، وكلأهم بكلاءته ونزل عليهم المن والسلوى .
وقال عن غضب الله بأنه يحل عليهم ، والمعنى آثاره من إصابتهم بالبلاء من قتل وذبح وصَغَار في الأرض ، وقد ذاقوه وتمرسوا عليه في حياتهم في مصر ، وهذا حث على طلب رضا الله تعالى ، بدل أن يسيروا فيما يوجب أن يحل بهم غضبه .
وقد رتب الله تعالى حلول غضب الله على إخلافهم موعده فقال:{ فأخلفتم موعدي} الموعد هنا مصدر ميمي بمعنى الوعد ، وإخلاف الوعد ألا يقوموا بموجبه ، وقد وعدوا موسى بالاستقامة والإيمان بالله وحده وترك الأوهام بالباطلة التي سيطرت عليهم بسبب مقامهم في أرض فرعون .
وإن هذا الموعد بلا ريب يؤدي إلى إغضاب الله تعالى ، لأنه يكون إشراكا وتفريطا في جنب الله ، فلا بد أن يحل عليهم غضب الله تعالى وأن يعاد إليهم ما ذاقوه من قبل وعرفوه ، أجابوا معتذرين عن فعلتهم الكبرى .