{قَالُواْ ما أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قرأنه نافع وعاصم «بِمَلْكِنا » بفتح الميم .وقرأه حمزة والكسائي «بِمُلِكْنَا » بضم الميم ،وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «بِمُلِكْنَا » بكسر الميم .والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ،فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك .وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم ،ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده .وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى !!ولقد صدق من قال:
إذا كان وجه العذر ليس ببين *** فإن اطراح العذر خير من العذر
وأما على قول من قال: إن الذين قالوا لموسى:{ما أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} هم الذين لم يعبدوا العجل ؛لأنهم وعدوه أن يتبعوه ،ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك ،ولم يتجرؤوا على مفارقتهم خوفاً من الفرقةفالعذر له وجه في الجملة ،كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة{قَالَ يا هَارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ 92 أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أمري 93 قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بلحيتي وَلاَ برأسي إني خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرائيل وَلَمْ تَرْقُبْ قولي 94} .والمصدر في قوله{بِمَلْكِنَا} مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف ،أي بملكنا أمرنا .وقال القرطبي: كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا .فهو اعتراف منهم بالخطأ .وقال الزمخشري:{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}: الزمان ،يريد مدة مفارقته لهم .
تنبيه
كل فعل مضارع في القرآن مجزوم ب«لم » إذا تقدمتها همزة استفهام ؛كقوله هنا:{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} فيه وجهان معروفان عند العلماء:
الأولأن مضارعته تنقلب ماضوية ،ونفيه ينقلب إثباناً .فيصير قوله:{أَلَمْ يَعِدْكُمْ} بمعنى وعدكم ،وقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ 1} بمعنى شرحنا ،وقوله:{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} ،جعلنا له عينين .وهكذا .ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر ،لأن «لم » حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف .ووجه انقلاب النفي إثباتاً أن الهمزة إنكارية ،فهي مضمنة معنى النفي ،فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في «لم » فينفيه ،ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات .
الوجه الثانيأن الاستفهام في ذلك التقرير ،وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول «بلى » وعليه فالمراد من قوله{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا .ونظير هذا من كلام العرب قول جرير:
ألستم خير من يركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح
فإذا عرفت أن قوله هنا{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً}إلى قوله{بِمَلْكِنَا} قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} الآيةفاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا ،وكذلك بعض فعله ،ولكنه بينه في غير هذا الموضع ؛كقوله في «الأعراف » في القصة بعينها:{وَلَما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَما خلفتموني مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} ،وبين بعض ما فعل بقوله في «الأعراف »:{وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ،وقد أشار إلى ذلك هنا في «طه » في قوله:{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بلحيتي وَلاَ برأسي} .
قوله تعالى:{وَلَكِنَّا حملنا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ 87 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هذا إلهاكم وإله مُوسَى فَنَسِىَ 88} .
قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم ،وحمزة والكسائي{حُمّلْنَا} بفتح الحاء والميم المخففة مبيناً للفاعل مجرداً .وقرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم «حملنا » بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبيناً للمفعول .و«نا » على القراءة الأولى فاعل «حمل » وعلى الثانية نائب فاعل «حمل » بالتضعيف .والأوزار في قوله{أَوْزَاراً}قال بعض العلماء: معناها الأثقال .وقال بعض العلماء: معناها الآثام .ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم .ووجه الثاني أنها آثام وتبعات ؛لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب ،وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ،ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم .والتعليل الأخير أقوى .
وقوله:{مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} المراد بالزينة الحلي ،كما يوضحه قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فقذفناها} أي ألقياناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ،وأمرنا أن نطرح الحلي فيها .وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة ؛لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه .والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها .وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس ،أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس ،ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات ،فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة ،فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها ،فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها ،ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة ،وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار ؛فجعله الله عجلاً جسداً له خوار ؛فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى ،كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى:{قَالَ فَما خَطْبُكَ يا سَامِري 95 قَالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلك سَوَّلَتْ لي نفسي 96} .
وقوله في هذه الآية:{وَلَكِنَّا حملنا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد ،وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم ،ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم ؛لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعيناً غير محتمل .ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال .