{ وأذّن} عطف على{ وطهر بيتي}[ الحج: 26] .وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان .
والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء .وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر .وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ،أي أكثر الإخبار بالشيء .والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار .ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء .
والناس يعمّ كل البشر ،أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك .
والمراد بالحجّ: القصد إلى بيت الله .وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك .ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس .فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع .
وفي تعليق فعل{ يأتوك} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية .روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى: « إن الله كتب عليكم الحجّ فْحُجُّوا » .وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين .وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه .
وجملة{ يأتوك} جواب للأمر ،جعل التأذين سبباً للإتيان تحقيقاً لتيسير الله الحج على الناس .فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه .
وقوله{ رجالاً} حال من ضمير الجمع في قوله{ يأتوك} .
وعطف عليه و{ على كل ضامر} بواو التقسيم التي بمعنى ( أو ) كقوله تعالى:{ ثيبات وأبكاراً}[ التحريم: 5] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب ،إذ الراكب لا يكون راجلاً ولا العكس .والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقاً للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جواباً للأمر ،أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم .
ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله{ رجالاً} ثم ذكر بعده{ وعلى كل ضامر} تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين .
و{ رجالاً}: جمع راجل وهو ضد الراكب .
والضامر: قليل لحم البطن .يقال: ضمر ضمُوراً فهو ضامر ،وناقة ضامر أيضاً .والضمور من محاسن الرواحل والخيللِ لأنه يعينها على السير والحركة .
فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال: وعلى كلّ راحلة .
وكلمة ( كُلّ ) من قوله{ وعلى كل ضامر} مستعملة في الكثرة ،أي وعلى رواحل كثيرة .وكلمة ( كلّ ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى:{ وأوتيت من كل شيء}[ النمل: 23] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك ،وقول النابغة:
بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
أي: بها وحش كثير في رمال كثيرة .
وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة:
جادت عليه كلّ بِكْرٍ حُرة *** فتركْنَ كلّ قرارة كالدرهم
سَحاً وتسكاباً فكلّ عشيةٍ *** يجري عليها الماء لم يتصرم
وتقدم عند قوله تعالى:{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في[ سورة البقرة: 145] .ويأتي إن شاء الله في سورة النمل .
و{ يأتين} يجوز أن يكون صفة ل{ كل ضامر} لأن لفظ ( كل ) صيره في معنى الجمع .وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث ،وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل: يأتون ،لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه .
ويجوز أن تُجعل جملة{ يأتين} حالاً ثانية من ضمير الجمع في{ يأتوك} لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف ،فصار المعنى: يأتوك جماعات ،فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث .
وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة .وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم .
والفجّ: الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب ،فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال .
والعميق: البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر ،فأطلق على البعيد مطلقاً بطريقة المجاز المرسل ،أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه .وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط ،فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت .