ضمير{ جعلناه} عائد إلى الإنسان .
والسّلالة: الشيء المسلول ،أي المنتَزع من شيء آخر ،يقال: سَللت السيف ،إذا أخرجته من غمده ،فالسلالة خلاصة من شيء ،ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة .
و{ من} ابتدائية ،أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة ،فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما .
وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً ؛فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل ( الأنثيين ) تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع ،فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض .ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة .ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طينٍ .
وقوله{ ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين} طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم .سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف ،أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين .
ف{ نطفةً} مَنصُوبٌ على الحال وقوله:{ في قرار مكين} هو المفعول الثاني ل{ جعلناه} .و{ ثم} للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة .فضمير{ جعلناه} عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة ،فالمعنى: جعلنا السلالة في قرار مكين ،أي وضعناها فيه حفظاً لها ،ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي ب ( في ) بمعنى الوضع .
والقرار في الأصل: مصدر قَرّ إذا ثبت في مكانه ،وقد سمي به هنا المكان نفسُه .والمكين: الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه ،فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيءُ الحالّ في المكان الثابت فيه .وقد وقع هنا وصفاً لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة ،على طريقة المجاز العقلي للمبالغة ،وحقيقتُه مكين حالُّه ،وقد تقدم قوله تعالى:{ أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة} في سورة الكهف ( 37 ) وقوله:{ فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة} في سورة الحج ( 5 ) .
ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله:{ ولقد خلقنا الإنسان} آدم .وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينَةَ الخاصةَ التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة ،فتلك الطينة مسْلولة سلاّ خاصّاً من الطين ليتكوّن منها حيٌّ ،وعليه فضمير{ جعلناه نطفة} على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلاً لآدم فيكون في الضمير استخدام ،ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى:{ وبدَأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين}[ السجدة: 7 ،8] .