وقوله{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي بعد خلق آدم وحواء ،فالضمير في قوله: ثم جعلناه لنوع الإنسان ،الذي هو النسل لدلالة المقام عليه ،كقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر .كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى{ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الذي أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [ السجدة: 6-9] وأشار إلى ذلك بقوله تعالى:{وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان ،أمر كل مكلف أن ينظر فيه .والأمر المطلق ،يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ،كما أوضحناه مراراً .وذلك في قوله:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [ الطارق: 5-6] .وقد أشار في آيات كثيرة ،إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور ،كما أوضحه هنا وكما في قوله تعالى:{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [ نوح: 13-14] وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب ،وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة ،إلى العلقة ،ومن العلقة إلى المضغة الخ .مع أنه لم يشق بطن أُمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات: وهي ظلمة البطن ،وظلمة الرَّحِم ،وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين ،وذلك في قوله جل وعلا:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [ الزمر: 6] فتأمل معنى قوله{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي عن هذه العجائب والغرائب ،التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم .وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [ آل عمران:6] وقال:{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [ الحج: 5] ثم ذكر الحكمة فقال{لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا ،وكمال قدرتنا ،وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة ،وقال في سورة المؤمن{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} [ غافر: 67] وقال تعالى:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى} [ القيامة: 36-40] والآيات بمثل هذا كثيرة ،وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله{كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} [ المعارج: 39] وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا ،فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته ،وما أظهر براهين توحيده ،وقد بين في آية المؤمنون هذه: أنه يخلق المضغة عظاماً ،وبين في موضع آخر: أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض ،تركيباً قوياً ،ويشد بعضها مع بعض ،على أكمل الوجوه وأبدعها ،وذلك في قوله{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [ الإنسان: 68] ،والأسر: شد العظام بعضها مع بعض ،وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها ،ومنه قول حميد بن ثور:
وما دخلت في الخدب حتى تنقضت *** تآسير أعلى قده وتحطما
وفي صحاح الجوهري: أسر قتبه يأسره أسراً شدة بالأسار وهو القد ،ومنه سمي الأسير ،وكانوا يشدونه بالقد ،فقول بعض المفسرين واللغويين: أسرهم: أي خلقهم فيه قصور في التفسير ،لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد ،وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه ،الذي لم يدبغ والله جل وعلا يشد بعض العظام ببعض ،شداً محكماً متماسكاً كما يشد الشيء بالقد ،والشد به قوي جداً .وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} القرار هنا: مكان الاستقرار ،والمكين: المتمكن .وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ،أو لتمكن من يحل فيه .قاله أبو حيان في البحر .وقال الزمخشري: القرار: المستقر ،والمراد به: الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها ،أو بمكانتها في نفسها ،لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت .