استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله:{ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً}[ النور: 55] ،فقد كان المشركون يومئذٍ لم يزالوا في قوة وكثرة ،وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقىً بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله:{ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض} تطميناً وتسلية .
والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين .
والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر .
وقراءة الجمهور:{ تحسبن} بتاء الخطاب .وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار{ الذين كفروا} فاعلّ{ يحسبن} فيبقى ل{ يحسبن} مفعول واحد هو{ معجزين} .فقال أبو حاتم والنحاس والفراء: هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين .وهذا القول جرأة على قراءة متواترة .وقال الزجاج: المفعول الأول محذوف تقديره: أنفسهم ،وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام .وفي « الكشاف » أن{ في الأرض} هو المفعول الثاني ،أي لا يحسبوا ناساً معجزين في الأرض ( يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه ،أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها ) قال: « وهذا معنى قوي جيّد » .
والمعجز: الذي يُعجز غيره ،أي يجعله عاجزاً عن غلبه .وقد تقدم عند قوله تعالى:{ إن ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين} في سورة الأنعام ( 134 ) .وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى:{ والذين سعوا في آياتنا معاجزين} في سورة الحج ( 51 ) .
والأرض: هي أرض الدنيا ،أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر .وفي الأرض} متعلق ب{ بمعجزين} على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر ،أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما علمت .
وقوله:{ ومأواهم النار} أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين .