{ يا ليتني} نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة ،كأنه يقول: هذا مقامُك فاحضري ،على نحو قوله:{ يا حَسْرَتَنا على ما فرطنا فيها} في سورة[ الأنعام: 31] .وهذا النداء يزيد المتمني استبعاداً للحصول .
كذلك قوله:{ يا وَيْلَتَا} هو تحسّر بطريق نداء الويل .والويل: سوء الحال ،والألف عوض عن ياء المتكلم ،وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .
وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى:{ فويل للذين يَكْتُبون الكتاب} في سورة[ البقرة: 79] .وعلى{ يا وَيْلَتنا} في قوله:{ يا ويْلَتَنا مَالِ هَذَا الكتاب} في سورة[ الكهف: 49] .
وأتبَع التحسّرَ بتمني أن لا يكون{ اتّخذ فلاناً خليلاً} .
وجملة{ ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} بدل من جملة{ ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً} بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خُلّة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني .
وجملة{ يا ويلتا} معترضة بين جملة{ يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً} وجملة{ ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً} .
و ( فلان ): اسم يكنّى عمّن لا يُذكر اسمه العلَمُ ،كما يُكنّى ب ( فلانة ) عمّن لا يُراد ذكر اسمها العلم ،سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها .قاله ابن السكيت وابن مالك خلافاً لابن السراج وابننِ الحاجب في اشتراط وقوعه في حكايةٍ بالقول ،فيعامل ( فلانُ ) معاملةَ العَلَم المقرون بالنون الزائدة و ( فلانة ) معاملة العَلَم المقترن بهاء التأنيث ،وقد جمعهما قول الشاعر:
ألاَ قاتل اللَّه الوشَاةَ وقولَهم *** فُلانة أضحت خُلة لفلان
أراد نفسه وحبيبته .
وقال المَرار العبسي:
وإذا فلان مات عن أُكرومة *** دَفعوا معاوز فقده بفلان
أراد: إذا مات مَن له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد ،وكذلك قول معن بن أوس:
وحتى سألتُ القَرض من كل ذي *** الغنى ورَدّ فلان حاجتي وفلان
وقال أبو زيد في « نوادره »: أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة ،أي في أواسط القرن الأول للهجرة:
إن لسعد عندنا ديواناً *** يخزي فلاناً وابنَه فلاناً
والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به ،أو لعدم الفائدة لذكره ،أو لقصد نوع من له اسمٌ عَلَم .وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حُمِلت على إرادة خصوص عُقبة وأُبَيَ أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صَدّه عن اتّباع الإسلام .
وإنّما تمنّى أن لا يكون اتّخذه خليلاً دون تمنِّي أن يكون عصاه فيما سوّل له قصداً للاشمئزاز من خلّته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها .
وفيه إيماء إلى أن شأن الخُلّة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرءُ خلّته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى{ يأيّها الذين آمنوا لا تتَّخِذوا بطانةً من دُونِكم لا يألونكم خبالاً}[ آل عمران: 118] فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خُويصّته فإنه سيحمل من يخالّه على ما يسير به لنفسه ،وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهُذلي:
فأول راضٍ سُنة مَن يسيرها
وهذا عندي هو محمل قول النبي صلى الله عليه وسلم"لو كنتُ متّخِذاً خليلاً غيرَ ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلاً"فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة: كان خُلُقُه القرآن .وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارمَ أخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي جعَلَه المخيَّرَ لخلته لو كان مُتّخذاً خليلاً غيرَ الله .