عطف على جملة{ أوَ لم نمكّن لهم حرماً آمناً}[ القصص: 57] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ ،فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمِطوا النعمة وقابلوها بالبطر .
والبطَر: التكبر .وفعله قاصر من باب فَرِح ،فانتصاب{ معيشتها} بعد{ بطرت} على تضمين{ بطرت} معنى ( كفرت ) لأن البَطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما يُسدى إليه من الخير .
والمراد: بطِرت حالة معيشتها ،أي نعمة عيشها .
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام ،ويعلم أنها حالة حسنة من قوله:{ بطرت} وهي حالة الأمن والرزق .
والإشارة ب ( تلك ) إلى{ مساكنهم} الذي بيّن به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن .وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزَّل منزلة الحاضر بمرأى السامع ،ولذلك فقوله:{ لم تُسكن من بعدهم} خبر عن اسم الإشارة والتقدير: فمساكنهم لم تُسكَن من بعدهم إلا قليلاً .
والسكنى: الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمناً طويلاً .
ومعنى{ لم تُسكْن من بعدهم} لم يتركوا فيها خلفاً لهم .وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم .
وقوله{ إلا قليلاً} احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها .
وانتصب{ قليلاً} على الاستثناء من عموم أزمان محذوفةٍ .والتقدير: إلا زماناً قليلاً ،أو على الاستثناء من مصدر محذوف .والتقدير: لم تسكن سكناً إلاّ سكناً قليلاً ،والسَّكْن القليل: هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى .فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء ،أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجعين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة .والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر ،أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا .
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرّ في طريقه إلى تبوك بحجْر ثمود فقال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين» أي خائفين أي اقتصاراً على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقاً لقدره .
وجملة{ وكنا نحن الوارثين} عطف على جملة{ لم تُسكن من بعدهم} وهو يفيد أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحلُّ فيها قوم آخرون بعدهم فعُبِّر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة .
وقصْر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي ،أي لا يرثها غيرنا .وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن .وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكن لأن بهجة المساكن سكانها ،فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها .