التّفسير
لا تخدعنكم علائق الدنيا:
كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول ما يدعيه أهل مكّة ،وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا ،وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والاقتصادي ..وقد أجابت الآيات السابقة على هذا الكلام بردٍّ بليغ .
وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:
الأوّل: يقول ..على فرض أنّكم لم تؤمنوا ،وحييتم في ظل الشرك مرفهين ماديّاً ،ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم ( فكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) .
أجل ،إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم ،والبطر أساس الظلم ،والظلم يجرّ حياتهم إلى النّار ...( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا ) .
بلى ...بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلاّ لفترة قليلة ( وكنّا نحن الوارثين ) .
فيا مشركي مكّة ...أتريدون أن تعيشوا حياة البطر والكفر كما عاشه أُولئك ،وتكون عاقبتكم كعاقبتهم ،فأي نفع في ذلك ؟!
كلمة «بطرت » مشتقّة من «بطر » على زنة «بشر » ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم .
والتعبير ب «تلك » التي هي اسم إشارة للبعيد ،وتستعمل غالباً للأُمور التي يمكن مشاهدتها ،ويحتمل أن يكون المقصود بها أرض «عاد وثمود وقوم لوط » التي لا تبعد كثيراً عن أهل مكّة ،وهي في أرض الأحقاف بين اليمن والشام ،أو في وادي القرى ،أو في أرض سدوم ،وجميع هذه المناطق في مسير قوافل التجار العرب الذين كانوا يمضون من مكّة إلى الشام ،وكانوا يرون تلك البيوت بأُم أعينهم خالية خاوية لم تسكن إلاّ قليلا .
وجملة ( إلاّ قليلا ) التي جاءت بصيغة الاستثناء ،فيها ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن الاستثناء عن الساكنين .
والاحتمال الثّاني: أنّه عن المساكن .
والاحتمال الثّالث: أنّه عن السكن .
ففي الصورة الأُولى يكون مفهومها أن جماعة قليلة سكنتها «أي سكنت تلك المساكن » .
وفي الصورة الثّانية يكون مفهومها أن فترة قليلة كان بها السكن في هذه «المساكن » لأنّ من يسكن في هذه المساكن المشؤومة سرعان ما تنطوي فيها صفحة حياته .
وبالطبع فإنّ إرادة المعاني الثلاثة من النصّ السابق لا يوجد لنا أي مشكلة ،وإن كان المفهوم الأوّل أظهر .
كما أن بعض المفسّرين قال: إنّ المقصود من هذه الآية هو الإشارة إلى السكن المؤقت للمسافرين الذاهبين والآيبين حيث يستريحون فيها لا أكثر ،وفسرها آخرون بأنّها إشارة لسكن الحيوانات الوحشية .
والقدر المسلم به أن هذه المساكن التي كانت ملوّثة بالإثمّ والشرك أصبحت غير صالحة للسكن فهي خاوية وخالية !
والتعبير ب ( وكنا نحن الوارثين ) إشارة إلى خلّوها من الساكنين ،كما هي إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء ،وإذا ما أعطى ملكاً «اعتبارياً » لأحد ،فإنّه لا يدوم له طويلا حتى يرثه الله أيضاً .
والآية الثّانية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر ،وهو: إذا كان الأمر كذلك ،بأن يهلك الله الطغاة ،فلم لم يهلك المشركين من أهل مكّة والحجاز ،الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان ،ولم يكن إثم ولا جهل إلاّ وارتكبوه ،ولم لم يعذبهم الله بعذابه الأليم ؟
يقول القرآن في هذا الصدد ( وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلوا عليهم آياتنا ) .