وفي الآية الثّانيةمن الآيتين محل البحثيتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم ،إلاّ أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية ،حيث يقول: ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا ){[3079]} .
ورد في كتب التّفسير أن الذي قال: ( إن نتبع الهدى معك ) الخ ..هو «الحارث بن نوفل » ،حيث قال للنّبي( صلى الله عليه وآله ): إنّنا نعرف أن ما تقوله حق ،لكن الذي يمنعنا من اتباعك والإيمان بك ،خوفنا من هجوم العرب علينا ليطردونا من أرضنا ،ولا طاقة لنا على ردّهم{[3080]} .
هذا الكلام لا يقوله إلاّ من يستضعف قدرة الله ويرى أن قدرة حفنة من العرب الجاهليين عظيمة !!وهذا الكلام لا يصدر إلاّ من قلب لا يعرف عناية الله وحمايته ،ولا يعرف كيف ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه ،لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم ( أو لم نمكّن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء{[3081]} ولكن أكثر هم لا يعلمون ) .
الله الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنّهار ،جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب ،ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم ،كل ذلك بيد قدرته القاهرة .
فإنّ من له هذه القدرة على إقرار «الأمن » وجباية «النعم » إلى هذا المكان وهؤلاء يرون ذلك بأعينهم ،كيف لا يكون قادراً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان ؟!
فقد كنتم في زمان الكفر مشمولين بنعمتي الله العظيمتين «الأمن والمواهب المعاشية » فكيف يمكن أن يحرمكم الله منهما بعد الإسلام ؟!
لتكن قلوبكم قوية وآمنو بما اُنزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكّة معكم .
هنا ،ينقدح هذا السؤال ،وهو: إن التأريخ يدل على أن حرم مكّة لم يكن آمنا للمسلمين للغاية ،ألم تعذب طائفة من المسلمين في مكّة ؟ألم يرموا النّبي( صلى الله عليه وآله )بالأحجار الكثيرة ؟!ألم يقتل بعض المسلمين في مكّة ؟!ألم يهاجر جماعة من المسلمين من مكّة مع جعفر بن أبي طالب( رضي الله عنه ) وجماعة آخرون مع النّبي( صلى الله عليه وآله ) آخر الأمر لعدم الأمن في مكّة ؟!
فنقول جواباً على ذلك:
أوّلا: مع جميع هذه الأُمور ما تزال مكّة أكثر أمناً من النقاط الأُخرى ..وكان العرب يحترمونها ويقدسونها ،وبالرغم من أنّهم كانوا يقدمون على جرائم متعددة في أماكن أُخرى ،إلاّ أنّهم كانوا يحجمون عن الإتيان بمثلها في مكّة .
والخلاصة: فمع عدم الأمن العام والكلي كانت مكّة تتمتع بالأمن النسبي ولاسيما أن الأعراب خارجها كانوا يراعون أمنها وقداستها .
ثانياً: صحيح أن هذه الأرض التي جعلها الله حرماً آمناً أضحت لفترة وجيزة غير آمنة على أيدي جماعة ...إلاّ أنّها سرعان ما تحولت إلى مركز كبير للأمن وتواتر النعم الكثيرة المتعددة ،فعلى هذا لم يكن تحمل هذه الصعاب المؤقتة من أجل الوصول للنعم العظيمة ،أمراً عسيراً ومعقداً .
وعلى كل حال ،فإنّ كثيراً ممن يقلقون على منافعهم الشخصية ،كالحارث بن نوفل ،لا يسلكون سبيل الهداية والإيمان ...في حين أنّ الإيمان بالله والتسليم لأمره ،لا يؤمن المنافع المعنوية لهم فحسب ،بل يؤمن لهم المحيط الصحيح والمنافع المادية المشروعة وما إلى ذلك .وعدم الأمن والغارات والحروب التي نجدها في عصر التمدنكما يصطلح عليهوفي الدنيا البعيدة عن الإيمان والهداية ،كل هذه الأُمور شاهد حي على هذا المدّعى !.
ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة الأساسية ،وهي أنّ الله سبحانه أوّل ما يذكر من نعمه نعمة الأمن ،ثمّ يذكر جلب الثمرات والأرزاق وغير ذلك من جميع الأنحاء إلى مكّة ،ويمكن أن يكون هذا التعبير مبيّناً هذا الواقع ،وهو: طالما كان الأمن حاكماً في بلد كان اقتصاده جيداً ،وإلاّ فلا ،«قد بيّنا هذا الأمر في بحثنا للآية 35 سورة إبراهيم » .
كما أنّ الجدير بالذكر أنّ «يجبى » جاءت على صيغة الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار في الحال والاستقبال ،ونحن اليوم وبعد مرور أربعة عشر قرناً ،نرى بأم أعيننا مفهوم هذا الكلام واستمرار جباية جميع أنواع المواهب إلى هذه الأرض المباركة ،فالذين يحجّون مكّة ويزورون بيت الله الحرام ،يرون بأعينهم هذه الأرض الجرداء الحارة التي لا تنبت شيئاً ،كم فيها من النعم !فكأن مكّة غارقة بها ،ولعل أية نقطة من العالم ليس فيها ما في مكّة من هذه النعم الوفيرة .
ملاحظة
إيمان أبي طالب والضجيج حوله:
هذا الموضوع يبدو عجيباً لمن كان من أهل البحث والمطالعة ..فكيف يصرّ جماعة من رواة الأخبار على أن يزعموا أنّ أبا طالب( عليه السلام ) عم النّبي كان مشركاً وغير مؤمن وأنّه مات كافراً !!وهو بإجماع المسلمين كان من الذين بذلوا تضحيات منقطعة النظير ،وحمى نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله ) وضحّى من أجله ؟!
ولم لا يكون هذا الإصرار بالنسبة للآخرين الذين لا حظّ لهم في تأريخ الإسلام ؟!
هنا نعرف أنّ المسألة ليست مسألة عادية ..ثمّ بأقل ملاحظة وتدقيق نصل إلى هذه النتيجة ،وهي أنّ وراء هذه البحوث التاريخية والروائية لعبة سياسيّة خطيرة من أعداء علي( عليه السلام ) ومناوئيه !فقد كانوا يصرّون على سلب كل فضيلة له ،حتى جعلوا أباه المضحّي والفادي للنبي والمؤثر له على نفسه يموت كافراً بزعمهم !!.
ومن المؤكّد أنّ بني أمية ومريديهم في عصرهم ،وقبل أن يصلوا إلى دفة الحكومة ،سعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لإثبات مدعاهم بالشواهد والحجج الواهية .
ونحن بقطع النظر عن هذه الأمواج السياسية المنحرفة والملوثة ،التي هي بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة ...نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة ...نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة تأريخية وتفسيرية بحتة ،بشكل موجز ومضغوط ( كما يقتضيه وضع الكتاب ) ليتّضح أن ليس وراء هذا الضجيج أي سند معتبر ،بل هناك شواهد حيّة ضده !.
1إن الآية محل البحث ( إنّك لا تهدي من أحببت ) ليس لها علاقة بأبي طالب كما بيّنا ،وقلنا: إن الآيات التي جاءت قبلها تدل بصورة واضحة أنّها في شأن جماعة من أهل الكتاب المؤمنين ، في مقابل مشركي مكّة .
الطريف أن الرازي الذي يزعم أن الآية نزلت في أبي طالب( عليه السلام ) بإجماع المسلمين !!يصرّح بأن الآية ليس فيها أقل دلالة على كفر أبي طالب{[3082]} .
ولكن مع هذه الحال فلماذا يصرون فيها على أن يكون أبو طالب( عليه السلام )مشركاً ؟فهذه مسألة غريبة ومدعاة للدهشة !..
2وأهم دليل لديهم في هذا المجال أنّهم ادعوا إجماع المسلمين على أنأبا طالب مات مشركاً !.
في حين أن مثل هذا الإجماع كذب محض لا أساس له ،وهو عار عن الصحة .
فالمفسّر المعروف «الآلوسي »وهو من علماء السنةصرح في تفسير روح المعاني أنّ هذه المسألة ليست إجماعية ،وحكاية الإجماع من قبل المسلمين أو المفسّرين على أنّ الآية المتقدمة نزلت في أبي طالب تبدو غير صحيحة ...لأنّ علماء الشيعة وجمع كثير من المفسّرين يعتقدون بإسلام أبي طالب ،وادّعى أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) الإجماع على ذلك ،إضافة إلى أن أكثر قصائد أبي طالب تشهد على إيمانه{[3083]} .
3التدقيق والبحث يدل على أن هذا الإجماع المزعوم هو من قبل أخبار الآحاد الذين لا اعتبار لهم ،وفي سند هذه الروايات أفراد مشكوك فيهم كذابون .
ومن هذه الرّوايات ما نقله ابن «مردويه » بسنده عن ابن عباس أن آية ( إنّك لا تهدي من أحببت ) نزلت في شأن أبي طالب ،وقد أصرّ النّبي( صلى الله عليه وآله ) عليه أن يؤمن فلم يؤمن{[3084]} .
في حين أنّ في سند هذه الرواية «أبو سهل السري » الذي عرف بين كبار أصحاب علم الرجال بأنّه من الكذابين الوضّاع السارقين للحديث .كما أنّ في سند هذه الرّواية «عبد القدوس أبو سعيد الدمشقي » وهو من الكذابين أيضاً{[3085]} .
وظاهر تعبير الحديث يدل على أن ابن عباس ينقل هذا الحديث من غير واسطة وكان شاهداً على ذلك ،في حين أنّنا نعرف أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ،فعلى هذا كان لا يزال رضيعاً عندما مات أبو طالب( عليه السلام ) ...ومن هنا نستنتج أنّ واضعي الحديث حتى في هذا العمل كانوا مبتدئين وناشئين !!.
وهناك حديث آخر في هذا المجال ينقله «أبو هريرة » إذ يقول: حين دنت وفاة أبي طالب قال له النّبي( صلى الله عليه وآله ): يا عم قل: لا إله إلاّ الله ،لأشهد لك يوم القيامة عند الله بالتوحيد ،فقال أبو طالب: لولا أن قريشاً تقول إن أبا طالب أظهر الإيمان حال الموت خوفاً ،لكنت أشهد بالتوحيد وأقرّ عينيك ،فنزل قوله تعالى: ( إنّك لا تهدي من أحببت ){[3086]} .
ويبدو من ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة كان شاهداً على هذه القضية ،في حين أنّنا نعرف أن أبا هريرة أسلم سنة فتح خيبر ،بعد الهجرة بسبع سنين ،فأينأبو هريرةمن وفاة أبي طالب التي حدثت قبل الهجرة ...؟!!
وإذا قيل أن ابن عباس وأبا هريرة لم يكونا شاهدين على هذه القضية ،وسمعا هذه القصّة من شخص آخر فإننا نسأل من هو هذا الشخص ؟!فالذي نقل هذا الحديث لهذين الشخصينإذاًمجهول ،ومثل هذا الحديث يعرف عند أهل الحديث بالمرسل ،والجميع يعلمون بأن لا اعتبار للمراسيل !
ومن المؤسف أنّ جماعة من رواة الأخبار والمفسّرين نقلوا هذا الحديث بعضهم عن بعض دون تدقيق في كتبهم ،وشيئاً فشيئاً كوّنوا إجماعاً لهذا الحديث !ولكن أيّ إجماع هذا ؟أم أي حديث معتبر !؟!
4وبعد هذا كلّه ،فإنّ متن هذه الأحاديث الموضوعة يدل على أنأبا طالب( عليه السلام ) كان مؤمناً بحقانية النّبي ،غاية ما في الأمر لم يجر ذلك على لسانه لملاحظات خاصة ...ونحن نعرف أن الإيمان هو بالقلب ،وأمّا اللسان فهو طريق القلب ،وفي بعض الأحاديث الإسلامية شبه أبو طالب بأصحاب الكهف الذين كانوا مؤمنين وإن لم يقدروا على إظهار الإيمان على ألسنتهم{[3087]} .
5ثمّ هل يمكن القناعة برواية مرسلة عن أبي هريرة أو ابن عباس في مثل هذه المسألة المهمة ،فلم لا يؤخذ بإجماع أئمة أهل البيت( عليهم السلام ) وإجماع علماء الشيعة ،وهم أعرف بحال أُسرة النّبي وأهله !!
إنّنا اليوم نحتفظ بأشعار كثيرة لأبي طالب توضح إيمانه بالإسلام ورسالة النّبي ( محمّد )( صلى الله عليه وآله ) ،وقد نقل هذه الأشعار طائفة من العلماء والأفاضل في كتبهم ( وقد نقلنا طائفة منها في ذيل الآية 26 من سورة الأنعام من مصادر سنية معروفة ) !.
6ومع غض النظر عن جميع ما تقدم ،فإنّ تأريخ حياة أبي طالب وتضحياته العظيمة للنّبي( صلى الله عليه وآله ) وعلاقة النّبي( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين الشديدة به إلى درجة أنّ النّبي سمى عام وفاته ب «عام الحزن » كل ذلك يدل على أنّه كان يعشق الإسلام ،ولم يكن دفاعه عن النّبي على أنّه أحد أرحامه ،بل دفاع رجل مؤمن مخلص وعاشق نظيف وجندي مضحٍّ عن قائده وإمامه ..فمع هذه الحالة ،كم يبلغ الجهل والغفلة والظلم وعدم الشكر بطائفة أن تصرّ على أنّ هذا الرجل المخلص المؤمن الموحّد مات مشركاً{[3088]}