وأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول له{ يحييها الذي أنشأها} أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال:{ من يُحي العظامَ وهي رميمٌ} لم يكن قاصداً تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة ،فأجيب جواب مَن هو متطلبٌ علماً .فقيل له:{ يُحييهَا الذي أنشأها أوَّلَ مرةٍ} .فلذلك بني الجواب على فعل الإِحياء مسنداً للمُحيي ،على أن الجواب صالح لأن يكون إبطالاً للنفي المراد من الاستفهام الإِنكاري كأنه قيل: بل يحييها الذي أنشأها أول مرة .ولم يُبنَ الجواب على بيان إمكان الإِحياء وإنما جعل بيانُ الإِمكان في جعل المسند إليه موصولاً لتدل الصلة على الإِمكان فيحصل الغرضان ،فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها ،أي يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها ثاني مرة كما أنشأها أول مرة .قال تعالى:{ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون}[ الواقعة: 62] ،وقال:{ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}[ الروم: 27] .
وذيل هذا الاستدلال بجملة{ وهو بكل خلقٍ علِيمٌ} أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها: كالخلق من نطفة ،والخلق من ذرة ،والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسُوس الفول وسُوس الخشب ،فتلك أعجب من تكوين الإِنسان من عظامه .
وفي تعليق الإِحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحيّ تحلّها الحياة كلحمه ودمه ،وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة .وعن الشافعي: أنّ العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت .قال ابن العربي: وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه .والصحيح ما ذكرناه ،يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقاً وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإِحساسَ .وقال ابن زُهر الحكيم الأندلسي في كتاب « التيسير »: إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساساً والذي ظهر لي أن لها إحساساً بطيئاً .