استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة ،فإنّه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشدّ التكاليف ،ثمّ ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ،وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال .وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين ،وليس في كلام السلفِ ذكر سبب نزولها ،ولا شكّ أنّها لم تكن أوّل غزوة لأنّ غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة ،وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران ،وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأنّ قوله:{ فانفِروا ثبات} يقتضي أنّهم غازون لا مغزوّون ،ولعلّها نزلت لمجرّد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدوّ ،والتحذير من العدوّ الكاشح ،ومن العدوّ الكائد ،ولعلّها إعداد لغزوة الفتح ،فإنّ هذه السورة نزلت في سنة ستّ ،وكان فتح مكة في سنة ثمان ،ولا شكّ أنّ تلك المدّة كانت مدّة اشتداد التألّب من العرب كلّهم لنصرة مشركي قريش والذبّ عن آلهتهم ،ويدلّ لذلك قوله بعد{ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}[ النساء: 75] الخ ،وقوله:{ فإن كان لكم فتح من الله}[ النساء: 141] فإنّ اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله:{ فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}[ الفتح: 27] .
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر .وهي أكبر قواعد القتال لاتّقاء خدع الأعداء .والحِذْرُ: هو توقّي المكروه .
ومعنى ذلك أن لا يغترّوا بما بيَنهم وبين العدوّ من هدنة صلح الحديبية ،فإنّ العدوّ وأنصاره يتربّصون بهم الدوائر ،ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء ،وهم الذين عنوا بقوله:{ وإنَّ منكم لمن ليُبطئنّ} إلى{ فوزاً عظيماً} .
ولفظ{ خذوا} استعارة لمعنى شدّة الحذر وملازمته ،لأنّ حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيداً عنك .ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه ،كقوله:{ خذ العفو}[ الأعراف: 199] ،وقولهم: أخذ عليه عهداً وميثاقاً .وليس الحذر مجازاً في السلاح كما توهمّه كثير ،فإنّ الله تعالى قال في الآية الأخرى{ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}[ النساء: 102] .فعطف السلاح عليه .
وقوله:{ فانفروا ثُبات أو انفروا جميعاً} تفريع عن أخذ الحذر لأنّهم إذا أخذوا حذرهم تخيّروا أساليب القتال بحسب حال العدّو .و{ انفروا} بمعنى اخرجوا للحرب ،ومصدره النفر ،بخلاف نفر ينفُر بضمّ العين في المضارع فمصدره النفور .
و ( ثُباتٍ ) بضمّ الثاء جمع ثُبة بضمّ الثاء أيضاً وهي الجماعة ،وأصلها ثُبَية أو ثُبَوَة بالياء أو بالواو ،والأظهر أنّها بالواو ،لأنّ الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء للتأنيث أصلها الواو نحو عِزة وعضة فوزنها فعة ،وأمّا ثُبة الحوض ،وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثَاب يثوب إذا رجع ،وأصلها ثُوَبَة فخفّفت فصارت بوزن فُلة ،واستدلّوا على ذلك بأنّها تصغّر على ثويبة ،وأنّ الثبة بمعنى الجماعة تصغّر على ثُبَيَّة .قال النحّاس: « ربّما توهّم الضعيف في اللغة أنّهما واحد مع أنّ بينهما فرقا » ومع هذا فقد جعلهما صاحب « القاموس » من واد واحد وهو حَسَن ،إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلاّ إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح .
وانتصب{ ثُبات} على الحال ،لأنّه في تأويل: متفرّقين ،ومعنى{ جميعاً} جيشاً واحداً .