/م71
فقال:{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} قال الراغب الحذر ( بالتحريك ) احتراز عن مخيف .وقال عز وجل:خذوا حذركم أي ما فيه الحذر من السلاح وغيره .اه وظاهره التفرقة بين الحذر بالتحريك والحذر بكسر فسكون .وفي لسان العرب أن الحذر والحذر الخيفة .ومن خاف شيئا اتقاه بالاحتراس من أسبابه ، قال في الأساس:رجل حذر متيقظ محترز وحاذر مستعد .وقال الرازي:الحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم ، هذا ما ذكره صاحب الكشاف .ثم نقل عن الواحدي فيه قولين:أحدهما أنه السلاح والثاني أن المعنى احذروا عدوكم ، والتحقيق ما قدمناه وهو أن الحذر الخيفة ويلزمه الاحتراز والاستعداد .
الأستاذ الإمام:الحذر والحذر الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته وإذا كان الأعداء متعددين فلا بد في أخذ الحذر من معرفة ما بينهم من الوفاق والخلاف وأن تعرف الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا ، وأن يعمل بتلك الوسائل .فهذه ثلاثة لا بد منها ، وذلك أن العدو إذا أنس غرة منا هاجمنا وإذا لم يهاجمنا بالفعل كنا دائما مهددين منه ، فإن لم نهدد في نفس ديارنا كنا مهددين في أطرافها ، فإذا أقمنا ديننا أو دعونا إليه عند حدود العدو فإنه لا بد أن يعارضنا في ذلك وإذا احتجنا إلى السفر إلى أرضه كنا على خطر .وكل هذا يدخل في قوله{ خذوا حذركم} كما قال في آية أخرى{ وأعدوا لهم ما استطعتم} [ الأنفال:60] الخ وعلى النفوس المستعدة للفهم أن تبحث في كل ما يتوقف عليه امتثال الأمر من علم وعمل .
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده طرقها ومضايقها وجبالها وأنهارها ، فإننا إذا اضطررنا في تأديبه إلى دخول بلاده فدخلناها ونحن جاهلون لها كنا على خطر ، وفي أمثال العرب"قتلت أرض جاهلها "وتجب معرفة مثل ذلك من أرضنا بالأولى حتى إذا هاجمنا فيها لا يكون أعلم بها منا .
ويدخل في الاستعداد والحذر معرفة الأسلحة واتخاذها واستعمالها ، فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال فيجب تحصيل كل ذلك ، كما هو الشأن في هذه الأيام .ذلك أنه أطلق الحذر ، أي ولا يتحقق الامتثال إلا بما تتحقق به الوقاية والاحتراز في كل زمن بحسبه .يريد رحمه الله تعالى أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيه من المدافع بأنواعها والبنادق والبوارج المدرعة وغير ذلك من أنواع السلاح وآلات الهدم والبناء وكذلك المناطيد الهوائية والطيارات .وأنه يجب تحصيل العلم بصنع هذه الأسلحة والآلات وغيرها وما يلزم لها ، والعلم بسائر الفنون والأعمال الحربية وهي تتوقف على ما أشار إليه من العلوم الأخر كتقويم البلدان وخرت الأرض .
قال:وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم عارفين بأرض عدوهم ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون وجواسيس في مكة يأتونه بالأخبار ولما أخبروه بنقض قريش العهد استعد لفتح مكة .ولما جاء أبو سفيان لتجديد العهد ظنه أنهم لم يعلموا بنكثهم لم يفلح وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة له واحدا وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة:حاربهم بمثل ما يحاربونك به:السيف بالسيف والرمح بالرمح .وهذه كلمة جليلة ، فالقول وعمل النبي وأصحابه كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته .
أقول:تعرض الرازي هنا لمسألة القدر وما عسى أن يقال من عدم نفع الحذر وكونه عبثا قال:وعنه قال عليه الصلاة والسلام:( المقدور كائن والهم فضل ) وقيل أيضا:لا "الحذر لا يغني من القدر "فنقول إن صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فإنه يقال إذا كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الإيمان وإن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان والطاعة .فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية .والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الأمر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل: "أي فائدة في الحذر "كلاما متناقضا لأنه لما كان الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر اه كلام الرازي .
أقول إن المسلمين قد ابتلوا بمسألة القدر كما ابتلي بها من قبلهم وقد شفي غيرهم من سم الجهل بحقيقتها فلم يعد مانعا لهم من استعمال مواهبهم في ترقية أنفسهم وأمتهم ولما يَشْفَ المسلمون .وقد كشفنا الغطاء عن وجه المسألة غير مرة ولم نر بدا مع ذلك من العود إليها في مثل هذا الموضع ، لا لأن مثل الرازي ذكرها ، بل لأن المسلمين أمسوا أقل الناس حذرا من الأعداء حتى أن أكثر بلادهم ذهبت من أيديهم وهم لا يتوبون ولا يذكرون ، ولا يتدبرون أمر الله في هذه الآية وما في معناها ولا يمتثلون ، ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي .
أما حديث المقدور كائن الخ فلا أذكر أنني رأيته في كتب المحدثين بهذا اللفظ ولكن روى البيهقي في الشعب والقدر مرفوعا"لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك "وهو ضعيف .وأما الحديث الثاني الذي عبر عنه بقوله:"وقيل أيضا "فقد رواه الحاكم عن عائشة بلفظ "لا يغني حذر من قدر "و صححه وما أراه يصح وتساهل الحاكم في التصحيح معروف ، والرازي ليس من رجال الحديث ولكنه رأى بالعقل أنه مخالف للآية أو مضعف من تأثير الأمر فيها ، وكيف يقول الله{ خذوا حذركم} ويقول رسوله أن الحذر لا ينفع لأن العبرة بالقدر الذي لا يتغير .
وإني على استبعادي لصحة الحديث وميلي إلى أنه من وضع المفسدين أفسدوا بأس الأمة بأمثال هذه الأحاديث أقول إنه لا يناقض الآية فإن الله أمرنا بالحذر لندفع عنا شر الأعداء ونحفظ حقيقتنا لا لندفع القدر ونبطله ، والقدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات ، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده .
ثم فرع على أخذ الحذر ما هو الغاية له والمقصد منه أو المتمم له فقال:{ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} ( النفر ) الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالفزع عن الشيء وإلى الشيء كما قال الراغب ومن الأول{ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} [ الإسراء:41] وهم إنما ينفرون عن القرآن لا إليه ومن الثاني النفر إلى الحرب وفيه آيات .وكانوا إذا استنفروا الناس للحرب يقولون النفير النفير .( والثبات ) جمع ثبة بضم ففتح وهي الجماعة المنفردة ، والمعنى فانفروا جماعة في أثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا وهو الذي يتعين إذا كان الجيش كثيرا أو كان موقع العدو يقتضي ذلك وهو الغالب ، أو انفروا كلكم مجتمعين إذا قضت الحال بذلك ، أو المعنى:فانفروا سرايا وطوائف على قدر الحاجة أو نفيرا عاما ، ويجب هذا إذا دخل العدو أرضنا كما قال الفقهاء .
الأستاذ الإمام:النفر مستعمل في الخروج إلى الحرب ثبات وجماعات ، ولا تتقيد الجماعة بعدد معين .وجميعا يراد به جميع المؤمنين على الإطلاق ، وهذا على حسب حال العدو .وإن أخذ الحذر ليشمل مع ما تقدم كيفية سوق الجيش وقيادته وهو النفر .ولما كان هذا مما قد يتساهل فيه خصه بالذكر فأمر به بهذا التفصيل ولو لم يصرح به لكان الاجتهاد في أخذ الحذر مما قد يقف دونه فلا يصل إليه ، وهو أن النفر على حسب الحاجة إلى مقاومة العدو وهو أن يرسل الجيش جماعات وفرقا كما عليه العمل حتى الآن ، فإذا احتيج في المقاومة إلى نفر جميع أفراد الأمة وخروجهم للجهاد وجب ، وهو قوله:{ أو انفروا جميعا} .وليس المراد أن يكون النفر على كيفيتين الأول أن يقسم الجيش إلى فرق وسرايا والثانية أن يسير خميسا واحدا ، ليس هذا هو المراد وإنما المراد الأول .
قال:ويتوقف امتثال هذا الأمر على أن تكون الأمة كلها مستعدة دائما للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرنوا عليها بالعمل فيظهر أن المعافاة من الخدمة العسكرية ليست شرفا بل هي إباحة لترك ما أوجبه الله في كتابه .أقول ويدخل فيه اقتناء السلاح مع العلم بكيفية استعماله والتمرن على الرمي بالمدافع وببندق الرصاص في هذا الزمان ، كما كانوا يتمرنون على رمي السهام ، وقد قصر المسلمون في هذا وسبقهم إليه من يعيبونهم بأنهم أمة حربية ، فصارت أمة السلام بدعواها قدوة لأمة الحرب في الحرب وآلاته .فيجب على الحكومة الإسلامية أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى فيه عالة على غيرها ، ويجب على الأمة أن تواتيها وتساعدها عليه ، وأن تلزمها إياه إذا هي قصرت فيه .