انتقل إلى الاستدلال على بطلان نفي صفة الإلهية عن أصنامهم .فجملة{ قل أرأيتم ما تدعون} أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم .
وجَاء هذا الاستدلالُ بأسلوب المناظرة فجُعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم بالاحتجاج ليكون إلجاءً لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته ،وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله:{ أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أيتوني بكتاب} الآية .و{ أرأيتم} استفهام تقريري فهو كناية عن معنى: أخبروني ،وقد تقدم في سورة الأنعام ( 40 ) قوله:{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} .
وقوله:{ أروني} تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله:{ أرأيتم ما تدعون} وموقع جملة{ أروني} في موقع المفعول الثاني لفعل{ أرأيتم} .
والأمر في{ أروني ماذا خلقوا من الأرض} مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئاً فلا تستطيعوا أن تُروني شيئاً خلقوه في الأرض ،وهذا من رؤوس مسائل المناظرة ،وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه .و{ ماذا} بمعنى ما الذي خلقوه ،ف ( ما ) استفهامية ،و ( ذا ) بمعنى الذي .وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول .وأصل التركيب: ماذا الذي خلقوا ،فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالباً في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى:{ من ذَا الذي يشفع عنده}[ البقرة: 255] .ولهذا قال النحاة: إن ( ذا ) بعد ( ما ) أو ( مَن ) الاستفهاميتين بمنزلة ( مَا ) الموصولة .
والاستفهامُ في{ ماذا خلقوا} إنكاري .وجملة{ ماذا خلقوا} بدل من جملة{ أروني} وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود{ ما} الاستفهامية بعده ،وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقاً لهم بطل أن يكونوا آلهة لِخروج المخلوقات عن خَلقهم ،وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى:{ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسَهم ينصرون} في سورة الأعراف ( 191 ،192 ) .
و{ أم} حرف إضراب انتقالي .والاستفهام المقدر بعد{ أم} المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات .وإنما أوثر انتفاء الشِركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها ،وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفاً للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه .
وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر ( 40 ){ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله} الآية فانظر ذلك .
ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله: ائتوني بكتاب من قبل هذا} فجملة{ ائتوني بكتاب} في موقع مفعول ثان لفعل{ أرأيتم} ،كرر كما يتعدد خبر المبتدأ .ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام كما تقدم .والمعنى: نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات ،ولا بأقوال الكتب ،فهذا قريب من قوله في سورة فاطر ( 40 ){ أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه} والمراد ب ( كتاب ) أيُّ كتاب من الكتب المقروءة .وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذِكراً غير الإبطال والتحذير من عبادتها ،فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين: إمّا إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية ،وإمّا عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده: أو{ أثارة من علم} .
والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى:{ فأتوا بسورة من مثله} في سورة البقرة ( 23 ) .
والإشارة في قوله:{ من قبل هذا} إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يُقرأ عليهم معاودة .ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يُصنع لهم ،كمَا قالوا:{ لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين}[ الأنفال: 31] .
و{ أثارة} بفتح الهمزة: البقية من الشيء .والمعنى: أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب .وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم .وفي قوله:{ إن كنتم صادقين} إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور ،وقد قال تعالى في سورة القصص ( 50 ){ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} .