{ أم} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم ،فالاستفهام اللازم تقديره بعد{ أم} إنكاري و{ بالغة} مؤكَّدة .وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يُطلب بها ،وذلك استعارة لمعنى مغلظة ،شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى:{ قل فللَّه الحجة البالغة}[ الأنعام: 149] .
وقوله:{ علينا} صفة ثانية ل{ أيمان} أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا .
و{ إلى يوم القيامة} صفة ثالثة ل{ أيمان} ،أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر ،فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى:{ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} في سورة الأحقاف ( 5 ) .
ويتعلق{ إلى يوم القيامة} بالاستقرار الذي في الخبر في قوله:{ لكم أيمان} ولا يحسن تعلقه ب{ بالغة} تعلق الظرف اللغو لأنه يصير{ بالغة} مستعملاً في معنى مشهور قريب من الحقيقة ،ومحملُ{ بالغة} على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة{ إن لكم لَما تحكمون} بيان ل{ أيمان} ،أي أيمان بهذا اللفظ .
ومعنى ( ما تحكمون ) تأمرون به دون مراجَعة ،يقال: نزلوا على حكم فلان ،أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان ،قال خَطاب أو حطان بن المُعلَّى:
أنزلني الدّهر على حكمه *** من شامخٍ عالٍ إلى خفض
أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيَّ كما شاء .
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال « حُكْمُكَ مُسَمَّطاً » ( بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة ) أي لك حكمك نافذاً لا اعتراض عليك فيه .وقال ابن عَثمة:
لك المِرباع منها والصفايا *** وحكْمُك والنشيطةُ والفُضول