عطف على جملة:{ ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}[ الأعراف: 3] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق ،لأنّه خالقهم على وجه الأرض ،وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم ،وتوبيخ على قلّة شكرها ،كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله:{ قليلاً ما تشكرون} فإنّ النّفوس التي لا يزجُرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة ،وقد قال أحد الخوارج وطُلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نِعماً:
أأقَاتِلُ الحجّاجَ عن سلطانه *** بيدٍ تُقِرّ بأنَّها مَوْلاَتِه
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد ،المفيد للتّحقيقِ ،تنزيلٌ للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عَبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكَّنهم من الأرض ،أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله .
والتّمكين جعل الشّيء في مكان ،وهو يطلق على الإقدار على التّصرف ،على سبيل الكناية ،وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى:{ مَكَّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم} في سورة الأنعام ( 6 ) وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح ،أي جعلنا لكم قدرة ،أي أقدَرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها ،وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلّب على مصاعبه ،وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى:{ إنا مكنا له في الأرض}[ الكهف: 84] لأنّ ذلك ليس حاصلاً بجميع البشر إلاّ على تأويل ،وليس المراد بالتمكين أيضاً معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله:{ في الأرض} يمنع من ذلك ،لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرضَ ،وقد قال تعالى عن عاد:{ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه}[ الأحقاف: 26] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه ،أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما .
ومعايش جمع معيشه ،وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب ،مشتقّة من العيش وهو الحياة ،وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى:{ فإن له معيشة ضنكاً}[ طه: 124] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش ،تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساوياً للحقيقة .
وياء ( معايش ) أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر ( عَيْش ) فوزن معيشة مفعلة ومعايش مَفاعل ،فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة .لأن استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة ردّوه إلى أصله واواً أو ياء بعد ألف الجمع ،مثل: مفَازة ومفاوِز ،فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء ،فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قِلاَدة وقلائِد ،وعَجُوز وعجَائز ،وصحيفَه وصحائف ،وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقه بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء ،وروى خارجة بن مصعب ،وحميد بن عمير ،عن نافع أنّه قرأ: معائش بهمز بعد الألف ،وهي رواية شاذة عنه لا يُعْبَأ بها ،وقُرىء في الشاذ: بالهمز ،رواه عن الأعرج ،وفي « الكشاف » نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري .
وقوله:{ قليلاً ما تشكرون} هو كقوله في أوّل السّورة{ قليلاً ما تذكّرون}[ الأعراف: 3] ونظائره .
والخطاب للمشركين خاصة ،لأنّهم الذين قَل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة .
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفاً في أوّل السّورة ،ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل .لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شَكروه ،ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها ،ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالاً لتذكرهم .
وانتصب ( قليلاً ) على الحال من ضمير المخاطبين و ( ما ) مصدريّة ،والمصدر المؤول في محلّ الفاعل بقليلاً فهي حال سببيّة .
وفي التّعقيب بهذه الآية لآية:{ وكم من قرية أهلكناها}[ الأعراف: 4] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها ،وهو ما دلّ عليه قوله:{ أهلكناها} .