{مَكَّنَّاكُمْ}: التمكين: إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع ،لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلةٍ وإلى دلالة وإلى سبب ويحتاج إلى ارتفاع المنع .فالتمكين عبارة عن جميع ذلك .
{وَجَعَلْنَا}: الجعل إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه ،مثل أن تقول: جعلت الساكن متحركاً لأنك فعلت فيه الحركة ،ونظيره التصيير ،وجعل الشيء أعمّ من حدوثه ،لأنه قد يكون بحدوث غيره مما يتغيّر به .
{مَعَايِشَ}: جمع معيشة ،وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشارب ؛وقيل هي مكاسب .
على الإنسان ربط حياته دوماً بالله
إن الله يريد من الإنسان أن يدرس حياته دائماً ،بما تشتمل عليه من إمكانات القوة ومواطن النعمة ،فيربطها بالله ،المصدر الأساس للقوة والنعمة ،ليدفعه ذلك إلى الشعور بالمسؤولية أمامه ،في ما يستخدم فيه القوة ،أو يستعمل فيه النعمة ...وذلك هو مفهوم الشكر العملي ،الذي يريد الله من الإنسان أن يجعله الطابع العام لحركة حياته ،والسمة البارزة لشخصيته ؛وذلك بأن يحوّل كل ما أعطاه الله إلى السبيل الذي يتحرك فيه أمر الله ونهيه ،لأنه لا يملك ذلك كله ،فلا حريّة له أن يتصرف فيه تبعاً لمزاجه وهواه ،بل يعتبر ذلك منه تمرّداً على الله ،ومضادّاً لحالة الشكر له ...ولن يتحقق ذلك إلا بالوعي الدائم لارتباط الوجود الإنساني في عناصره وخصائصه بالله ،والابتعاد عن الانغلاق الفكري والروحي داخل الذات ،الذي يوحي إليه بالإمكانات الذاتية التي يستمدها من وجوده بعيداً عن الله .
شكر الله يجب أن يلازم الإنسان
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} في ما أودعه من عناصر القوة في الإنسان ،وما سخره له من مخلوقاته ،{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} في ما تأكلون وتشربون وتلبسون وتستمتعون ...لتشكروا الله على ذلك ،وتنطلقوا به في طريق طاعته .{قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} ،وتلك هي النتيجة الطبيعية للغفلة عن معنى الحياة المسؤولة في صلتها بالله ،لأن قضية الشكر هي قضية وعي وانفتاحٍ وإيمان ،لتعرف أن الله لم يخلقك عبثاً ،ولم يخلق الحياة بدون هدف ،ولم يترك الإنسان بدون نظام ...فمع كل مخلوقٍ فكرة ،ومع كل حياةٍ هدف ،وأمام كل إنسان مسؤولية ؛فللقوّة مسؤوليتها في تحمل عبء الحياة ،وللنعمة مسؤوليتها في تنمية طاقات الحياةحياتك وحياة الآخرينفلا مجال للسلبيّة أو الأنانية ...وهذا ما يدفعنا إلى أن نفكر دائماً بالله في كل إحساسٍ بالقوة ،وفي كل مظهر للنعمة ؛لنشكر الله على ذلك ،ولنجعل من الشكر سبيلاً من سُبُل إغناء تجربة الإنسان المؤمن في حركة الحياة .
هل هناك صراع بين الإنسان والطبيعة ؟
ربما نستوحي من هذه الآية ما استوحاه بعض المفسرينوهو سيد قطبأن الله خلق الأرض في طاقاتها المتنوعة والإنسان في إمكاناته العقلية والجسدية وجعل بينهما نوعاً من العلاقة ،بحيث سخّر الأرض في امتداداتها التحتية والفوقية وآفاقها الفضائية ،للقدرة الإنسانية ،وأعطى الإنسان الإمكانات الواسعة في عقله وجسده التي يستطيع بها ان يكشف عن أسرارها ويسيطر على مواقعها ويحرك طاقاتها ،ليستفيد منها في إغناء حياته وليمنحها من فكره الكثير من حركة الإبداع الذي يطورها ويحولها إلى عنصر متحرك منتج صديق للإنسان لا عدو له ،وعلى ضوء هذا تنطلق النظرية الإسلامية التي تتحدث عن التكامل بين الإنسان والطبيعة ،خلافاً للنظرية الغربية المادية التي تتحدث عن صراع بينها وبينه ،بحيث يتحول الانسان الذي قد يسيطر على بعض أسرارها وطاقاتها إلى قاهر لها ،وتتحول هي عند سقوطه امامها إلى قاهرة له .
إنّ الإسلام من خلال هذا الحديث عن التمكين الإلهي والتسخير الربوبي يؤكد نظرية التنوع في الوجود ،في الإنسان والطبيعة ،بحيث يسير نحو التوحد مع حركية الخصائص المتنوعة في داخله أما الجهد والتعقيد في الوصول إلى فعلية التكامل ،فإنه من لوازم السنة الإلهية في حاجة الإنسان ،للوصول إلى ما يريد ،إلى الكثير من الحركة والصعوبة التي تكلفه الكثير من الجهد والتضحيات ،لأن الله أراد للأشياء أن لا تفصح عن دفائنها ،وأن لا تعطي من طاقاتها إلا بذلك ،تماماً كما هو خلق الإنسان في كبد ،وكما هو برنامج المسؤولية الملقاة على عاتقه التي تمنحه نتائجها في الدنيا والآخرة ،وذلك قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [ الانشقاق:6] .