عطف على جملة:{ ولقد مكناكم في الأرض}[ الأعراف: 10] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع ،وهي نعمة عناية ،لأنّ الوجود أشرف من العدم ،بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ،وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله ،وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم ،ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله ،وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ،وهو غرض السورة ،وذلك عند قوله تعالى:{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}[ الأعراف: 27] ومَا تلاه من الآيات ،فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة .
والخطاب للنّاس كلّهم ،والمقصود منه المشركون ،لأنّهم الغرض في هذه السورة .
وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله:{ ولقد خلقناكم} ،وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ،لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى: خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ،وهو آدم ،كما أفصح عنه قوله:{ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} .
والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ،وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به .
والتّصوير جعل الشّيء صورة ،والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع .
وعطفت جملة{ صورناكم} بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق ،لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً ،بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ،سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم ،أم كان بعد الخلق بمدّة ،كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ،كقوله تعالى:{ فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً}[ المؤمنون: 14] .
وتعدية فعلي ( خلقنا ) و ( صوّرنا ) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله:{ ولقد مكناكم في الأرض}[ الأعراف: 10] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي:{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}[ الأعراف: 27] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك:{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا}[ الأعراف: 28] وقوله فيما تقدّم:{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}[ الأعراف: 3] .
وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى:{ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية}[ الحاقة: 11] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ،لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ،ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ،كقوله تعالى: حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم:{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين}[ الذاريات: 35] أي أردنا إخراج من كان فيها ،فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية .
ودلّ قوله:{ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ،ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم ،فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ،ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .
و ( ثُمّ ) في قوله:{ ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم} عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .
وقوله:{ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} ،تقدّم تفسيره ،وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم ،من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة ،عند قوله تعالى:{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} في سورة البقرة ( 34 ) .
وتعريف{ الملائكة} للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة ،بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ،الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم ،ونقل ذلك عن ابن عبّاس ،ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة .وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله ،لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .
واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ،ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ،وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ،فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ،وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ،وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ،وتقدّم ذلك في سورة البقرة .واستثناء إبليس من الساجدين في قوله:{ إلا إبليس} يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم .وقال السكاكي في « المفتاح » عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب .
وجملة: عغتاة ،{ لم يكن من الساجدين} حال من ( إبليس ) ،وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ،لما فيها من معنى: أستثنِي ،لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى ،وهو عين مدلول: لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً .وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين: إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى:{ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام ( 56 ) .
ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ،وجعل له هوىً ورأياً ،فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة .وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه ،فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه ،فكان قوله تعالى:{ لم يكن من الساجدين} إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ،أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ ،وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله:{ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} .