عَوْد إلى بقية حوادث بني إسرائيل ،بعد مجاوزتهم البَحر ،فالجملة عطف على جملة:{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر}[ الأعراف: 138] .
وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة ،وقرأ أبو عمرو: وَوَعَدْنَا .وحذف الموعود به اعتماداً على القرينة في قوله:{ ثلاثين ليلة} الخ ،و{ ثلاثين} منصوب على النيابة عن الظرف ،لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة ،ودل عليه{ واعدنا} لأن المواعدة للقاء فالعامل{ واعدنا} باعتبار المقدر ،أي حضوراً مدة ثلاثين ليلة .
وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيراً عليه ،فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته ،زاده الله من هذا الفضل عشر ليال ،فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة ،وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال ،لم تصح ،ولم يزده على أربعين ليلة: إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعَدهُ الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه ،وذلك يُجنّب عنه المتقون بَله الأنبياء ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم"عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا"وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار ،كما قيل: إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة ،وسميت زيادةُ الليالي العشر إتماماً إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ،ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة ،إما لحكمة الاستيناس ،وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب ،والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي ؛لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة .
والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية ،والأحوال المَلَكية ،منها في النهار ،إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناسُ بنور الشمس والنشاط به للشغل ،فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات ،وذلك ينحّط في الليل والظلمة ،وتنعكس تفكرات النفس إلى دَاخلها ،ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى ،قال:{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}[ السجدة: 16] الآية ،وقال:{ وبالأسحار هم يستغفرون} ،وفي الحديث:"ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له ،هل من داع فأستجيب له"ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في « هياكل النور » « النّفوسُ الناطقة من عالم الملكوت ،وإنما شغَلها عن عالَمها القوى البدنية ومشاغَلتُها فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف » .
على أن الغالب في الكلام العربي التوقيتُ بالليالي ،ويُريدون أنها بأيامها ،لأن الأشهر العربية تُبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة .
وقوله{ فَتَم ميقاتُ ربه أربعينَ ليلة} فذلكةُ الحساب كما في قوله:{ فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلكَ عشرة كاملة}[ البقرة: 196] ،فالفاء للتفريع .
والتمام الذي في قوله:{ فتم ميقات ربه} مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتاً أكمل وأفضل كقوله تعالى:{ تماماً على الذي أحسنَ}[ الأنعام: 154] إلى قوله:{ وأتممت عليكم نعمتي}[ المائدة: 3] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال ،وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة ،ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقاً وتيسيراً عليه ،ليكون إقبالُه على إتمام الأربعين باشتياق وقوة .
وانتصب{ أربعين} على الحال بتأويل: بالغاً أربعين .
والميقات قيل: مرادف للوقت ،وقيل هو وقت قدّر فيه عمل مّا ،وقد تقدم في قوله تعالى:{ قل هي مواقيت للناس والحج} في سورة البقرة ( 189 ) .
وإضافته إلى{ ربه} للتشريف ،وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين ،فزعموا أن موسى هلَك في الجبَل كما رواه ابن جُريج ،ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج .
أي: قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحدَه ومعه غلامُهْ يُوشعُ بنُ نَون .
ومعنى{ اخلُفني} كُنْ خلَفاً عني وخليفة ،وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلَف ،فالخلافة وكالة ،وفعْلُ خَلَف مشتق من الخَلْف بسكون اللام وهو ضد الإمام ،لأن الخليفة يقوم بعمل مَن خَلَفَه عند مغيبه ،والغائِب يَجعل مكانَه وراءَه .
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله:{ وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح ،وهو جعل الشيء صالحاً ،فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ،وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ،فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحاً ،ولا تلبث أن تؤول فساداً على مَن لاحت عنده صلاحاً ،ثم إذا تردد فعلٌ بين كونه خيراً من جهة وشراً من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتُبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفرُ صلاحاً ،وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكَنَ إلغاؤُه وإلاّ تخيّر ،وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة .
وقوله:{ ولا تتبع سبيل المفسدين} تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نَهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبينَ تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين .
والإتباع أصله المشي على حلف ماش ،وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ،فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسِد من كان الفساد صفتَه ،فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيراً من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ،لأن المفسدين قد يعملون عملاً لا فساد فيه ،فنُهي عن المشاركة في عمل من عُرف بالفساد ،لأن صدوره عن المعروف بالفساد ،كافٍ في توقع إفضائه إلى فساد .ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ،وسَد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ،وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه .
فلا جرم أن كان قوله تعالى:{ ولا تتبع سبيل المفسدين} جامعاً للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ،وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ،وتجنبُ الاقتراب من المفسد ومخالطته .
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ،أو أعلمه ،ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ،وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ،والاحتياط من حدوث العصيان في قومه ،كما حكى الله عنه في قوله:{ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتُلونني}[ الأعراف: 150] وقوله:{ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل}[ طه: 94] .
فليست جملة:{ ولا تتبع سبيل المفسدين} مجرد تأكيد لمضمون جملة{ وأصلح} تأكيداً للشيء بنفي ضده مثل قوله:{ أموات غير أحياء}[ النحل: 21] لأنها لو كان ذلك هو المقصَد منها لجُرّدت من حرف العطف ،ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل: وأصلح لا تفسد ،نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة:{ وأصلح} .