/م142
قال تعالى:{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة} هذا السياق الذي قبله المبدوء بقوله تعالى:{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} الآيات .قرأ أبو عمرو ويعقوب ( وعدنا ) من الوعد والباقون ( واعدنا ) من المواعدة فقيل إنها هنا بمعنى الوعد وقيل إن فيها معنى صيغة المفاعلة باعتبار أن الله تعالى ضرب لموسى عليه السلام موعدا لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة فقبل ذلك ثم صعد جبل سيناء في أول الموعد وهبط في آخره ، وفرق بين الاتفاق على الشيء بين اثنين أو أكثر كالتلاقي في مكان معين أو زمان معين وبين الوعد به من واحد لآخر لا يطلب منه شيء لأجل الوفاء كقولك لآخر سأدعو الله لك في البيت الحرام مثلا – فهذا وعد محض وذاك يحتمل الأمرين باعتبارين كعبارة الآية .والميقات أخص من الوقت فهو الوقت الذي قرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج .وفي سورة البقرة{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} [ البقرة:51] وهو إجمال لما فصل هنا من قبل لأن الأعراف مكية والبقرة مدنية فهي متأخرة عنها في النزول والمراد بالليلة ما يشمل الليل والنهار في عرف العرب عند الإطلاق .
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية أن موسى قال لقومه:إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلما وصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله – وذكر قصة عجل السامري- وروى الثاني عن أبي العالية في قوله:{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح فقربه الرب نجيا وكلمه وسمع صريف القلم ، وبلغنا أنه لم يحدث في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور ، وفي معنى هذا روايات أخرى صريحة في أن هذا الزمن ضرب لمناجاة موسى ربه في الجبل منقطعا فيه عن بني إسرائيل ، وهو الحق الموافق لما ورد في هذه السورة وغيرها من قصة السامري وعبادة العجل في غيبة موسى ومنه قولهم لهارون{ لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى} [ طه:91] وأخرج الديلمي عن ابن عباس رفعه"لما أتى موسى ربه وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين يوما وقد صام ليلهن ونهارهن فكره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه:لم أفطرت ؟ وهو أعلم بما كان قال:أي رب ، كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح ، قال:أو ما علمت يا موسى إن فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ؟ اذهب فصم عشرة أيام ثم ائتني .ففعل موسى الذي أمره"ربه "وهذا الحديث ضعيف السند ومتنه معارض بما أشرنا إليه من آيات قصة السامري ومن الروايات التي بمعناها .
ويستدل الصوفية بهذه الرواية على أيام خلوتهم التي يصومون أيامها الأربعين لا يفطرون إلا على حبات من الزبيب لما ورد في الأحاديث الصحيحة من النهي عن الوصال في الصيام{[1241]} ، والأولى أن يستأنس بالروايات الصحيحة للتفرغ لذكر الله ومناجاته بالصلاة أربعين يوما وليلة فيجعل مقصدا لا وسيلة .
وهذا ما ورد في التوراة الحاضرة في المسألة من سفر الخروج"24-12 وقال الرب لموسى اصعد إليّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم 13- فقام موسى ويشوع خادمه وصعد موسى إلى جبل الله 14- وأما الشيوخ فقال لهم:اجلسوا ههنا ، وهو ذا هارون وحور معكم ، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما 15- فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل 16- وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب 17- وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل ، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل ، وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة اه .
وفي الفصل الرابع والثلاثين منه ما نصه أيضا:( 34:27 وقال الرب لموسى اكتب لنفسك هذه الكلمات قطعت عهدا معك ومع إسرائيل 28- وكان هناك عند الرب أربعين نهارا أو أربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء ، فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر ) اه .
{ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين} يعني أن موسى لما أراد الذاهب لميقات ربه استخلف عليهم أخاه الكبير هارون عليهما السلام للحكم بينهم والإصلاح فيهم ، إذ كانت الرياسة فيهم لموسى وكان هارون وزيره ونصيره ومساعده كما سأل ربه بقوله:{ واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} [ طه:29- 32] وأوصاه بالإصلاح فيهم وفيما بينهم ونهاه عن اتباع سبيل المفسدين في الأرض .
والإفساد أنواع بعضها جلي وبعضها خفي ومن كل منهما وسيلة ومقصد ، فمنها الحرام البين ومنها الذرائع المشتبهات التي يختلف فيها الاجتهاد ، ويأخذ التقي فيها بالاحتياط ، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم ، ومساعدتهم عليها ، ومعاشرتهم والإقامة معهم في حال اقترافها ، ولو بعد العجز عن إرجاعهم عنها ، ومن ذلك ما يجوز وقوعه من الأنبياء عليهم السلام فيصح نهيهم عنه تحذيرا من وقوعهم فيه بضرب من الاجتهاد كالذي وقع الاختلاف فيه بين موسى وهارون عليهما السلام في قصة عجل السامري الذي حكاه تعالى عنه في سورة طه بقوله:{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [ طه:92- 94] فالرسالة كانت لموسى بالإصالة ولهارون بالتبع ليكون وزيرا لا رئيسا ، وموسى هو الذي أعطى الشريعة ( التوراة ) وكان هارون مساعدا له على تنفيذها في بني إسرائيل كما كان مساعدا له على تبليغ فرعون الدعوة وإنقاذ بني إسرائيل .
وقد روى الشيخان وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) وذلك أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك قبل خروجه فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان ؟ فقاله{[1242]} .وفي رواية لأحمد أن عليا رضي الله عنه قال:رضيت رضيت ، وإنما قال في النساء والصبيان لأنه لم يتخلف عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غير النساء والصبيان ومن في حكمهم من ضعيف ومريض إلا من استأذن من المنافقين .
قال القاضي عياض في شرحه لمسلم:هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقا لعلي وأنه أوصى له بها .قال:ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا لأنه لم يقم بطلب حقه .وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من أن يرد عليهم الخ ما قال .وقد ذكرت هذا من قوله لأذكر القارئ بأن هذين الفريقين لم يقولا ما قالا عن اعتقاد بل كانوا من جمعيات المجوس والسبئيين الذين يبغون الفتنة لإبطال الإسلام وإزالة ملك العرب بالشقاق الديني .وأما الاستخلاف فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على المدينة بعض الصحابة كلما خرج إلى غزوة ولم يكن يختار أفضلهم لذلك ، وفي الحديث من المنقبة لعلي ما هو فوق استخلافه وهو جعله أخا للنبي صلى الله عليه سلم ولا يتضمن ذلك استخلافه بعده صلى الله عليه وسلم لأن هارون مات قبل موسى عليهما السلام قطعا .