/م138
والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله:{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم} قرأ ابن عامر ( وإذ نجاكم ) على أنه من مقول موسى عليه السلام قطعا والباقون ( أنجيناكم ) وذكروا فيه احتمالين:
أحدهما:وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مسندا إلى الله تعالى متمما لكلام موسى ومبينا للمراد منه على طريقة الالتفات عن الحكاية عنه ، ولهذا الالتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب ، ومنه قوله تعالى في قصة موسى من سورة طه{ الّذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتّى} [ طه:20] الخ فأول الآية من قول موسى في جواب فرعون وقوله"فأخرجنا "التفات عن الحكاية وانتقال إلى كلامه تعالى عن نفسه ، خاطب به من أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه ، تنبيها لهم بتلوين الكلام ، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحا من التأثير الخاص ، إلى كونه هو المسدي لهذا الإنعام .واقتصر بعض المفسرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من بني إسرائيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأفادت قراءة ابن عامر أن موسى قالها لقومه في ذلك الوقت ، وأفادت قراءة الآخرين أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذكر بها قوم موسى في زمنه كما تقدم في سورة البقرة وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي من إعجاز إيجاز القرآن .
الثاني:أن قراءة الالتفات من جملة الحكاية عن موسى عليه السلام أسند الإنجاء فيها إلى الله تعالى مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه للإشارة إلى جعله تعالى هذا الإنجاء بسبب رسالتهما وتأييده تعالى لهما بتلك الآيات .
والمعنى واذكروا إذا أنجاكم الله تعالى بفضله –أو إذا أنجيناكم بإرساله تعالى إيانا لأجل ذلك ومما أيدنا به من الآيات –من آل فرعون حال كونهم يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم ، وخص بالذكر من هذا العذاب شر أنواعه بقوله:يقتلون ما يولد لكم من الذكور –ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن- وهذا بدل بعض من كل .وفي ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم وتفضيله إياكم على أولئك العالين في الأرض وعلى غيرهم كسكان البلاد المقدسة التي سترثونها بلاء عظيم ، أي اختبار لكم من ربكم المنفرد بتربيتكم ، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار ، فإن أجدر الناس بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ، من يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له من يرى من آياته في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه ، أي فكيف تطلبون بعد هذا كله ممن رأيتم هذه الآيات على يده وليس لها فيها أقل تأثير أن يجعل لكم إلها من أخس المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله تعالى وهو قد فضلكم عليها وعلى عابديها ومن هم أرقى منهم ؟
وقد غفل الشهاب الخفاجي عن كون تفضيلهم على العالمين لم يكن إلا بدعوة التوحيد المؤيد بتلك الآيات ، فزعم أن الاحتجاج به خطابي ، لا برهان عقلي ، واعتذر عن عدم احتجاج موسى ببرهان التمانع بأنه من العوام ، وهو لا ينكر أن تلك المعجزات من البراهين القطعية ، وإن اختلف المتكلمون في دلالتها هل هي عقلية أو وضعية ، ...وغفل أيضا عن كون برهان التمانع إنما يحتج به على المشركين في الربوبية دون العبادة فقط .وقد تعقبه في هذا الألوسي فقال:وفي إقامة برهان التمانع على الوثنيين القائلين{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [ الزمر:3] والمجيبين إذا سئلوا:من خلق السماوات والأرض ؟ يخلقهن الله- خفاء ، والظاهر إقامته على الثنوية كما لا يخفى اه ووجهه أن الثنوية يقولون بوجود ربين إلهين اشتركا في خلق العالم وتدبير أمره:أحدهما رب النور والخير ، والثاني رب الظلمة والشر ، ويحتج عليهم بأنه لو كان في العالم خالقان مدبران أو أكثر لامتنع أن يوجد فيه نظام يصلح به أمره إذا فرض جواز وجوده ، لأن تعدد المدبرين لأمر الشيء كتعدد الخالقين يقتضي تعدد العلم والإرادة والقدرة التي يكون بها التدبير ، والخلق والتقدير ، وتعددها يقتضي التغاير والاختلاف فيها وإلا فلا تعدد ، وهذا الاختلاف يقتضي التعارض في متعلقاتها بأن يتعلق بعضها بغير ما تعلق به الآخر من ضد ونقيض ، وأي فساد في النظام وموجب للاختلال أشد من هذا ؟ وإنما قلنا إذا جاز وجوده لأن الإشارة إلى البرهان في قوله تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [ الأنبياء:22] قد بني على أن السماوات والأرض موجودتان والنظام فيهما مشاهد بالأبصار والبصائر ، وكما يمتنع استقامة النظام وصلاح التدبير الصادر عن علوم وإرادات وقدر مختلفة متعارضة ، كذلك يمتنع صدور الكون نفسه عنها بالأولى .
وفي الآية التي قبل الأخيرة من نكت البلاغة أنه أعيد لفظ"قال "في أولها لما أشرنا إليه من أن هذا جواب مستقل لا يشترك مع ما قبله فيعطف عليه ، ولا هو معه من قبيل سرد الصفات أو الإعداد التي يطلب فيها الفصل ، أي كقوله تعالى:{ التّائبون العابدون الحامدون السّائحون الرّاكعون السّاجدون} [ التوبة:112] الخ وقولهم:الأول كذا- الثاني كذا الخ فلم يبق إلا إعادة"قال "لامتناع الفصل والوصل كليهما بدونها ، وأن تكون"قال "مفصولة لا معطوفة لإفادة هذا الاستقلال في الجواب ، إذ لا فرق بين عطف القول وعطف الجملة الاستفهامية بدونه في أن كلا منهما يقتضي الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه كما حققه عبد القاهر في دلائل الإعجاز .
ولما كان كل من له ذوق في أساليب هذه اللغة يشعر بأن البدء بهذا الاستفهام هنا بدون"قال "غير مستعذب ولا مستساغ وإن لم يعرف سبب هذا ونكتته –بحث طلاب نكت البلاغة في التفسير عن نكتة هذه الإعادة فلمح بعضهم ما قررناه ولم يتبينه واضعا ليبينه:قال الألوسي:قيل هذا هو الجواب وما قبله تمهيد له ولعله لذلك أعيد لفظ قال اه فنقل هذه النكتة بصيغة التمريض"قيل "إذا كانت أخفى عنده منها عند صاحبها الذي قال:ولعله ...فلم يجزم –ثم نقل عن أبي السعود قوله في هذا الجواب:هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا ، لكونه هالكا باطلا أصلا ، ولذلك وسط بينهما"قال "مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام اه:ثم نقل تعليلا آخر للشهاب وهو:أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين (؟ ) لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى .
وأقول إن العبارة الأولى أصح وأسلم من هذين القولين المعترضين على أنهما مبنيان على لمح ما لمح صاحبها إذ لو سلم للأول أن الآية في بيان شؤون الله الخ وللثاني أنها دليل خطابي لا برهاني لما كان هذا ولا ذاك مقتضيا لإعادة فعل القول لذاته وإنما العبرة بموقعه وامتناع كل من فصله بدون القول ووصله بالعطف على ما قبله كما علم مما بيناه والحمد لملهم الصواب ، وقد بينا بطلان قول الشهاب آنفا ، وضعف قول أبي السعود لا يحتاج إلى بيان .