موسى يذكّر قومه بنعم الله عليهم
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} .هل فكرتم في هذه النعمة العظيمة ،وهي نعمة الحرية التي عدتم بها أحراراً ،تملكون تفكيركم وإرادتكم وحركتكم في الحياة بعد أن كنتم عبيداً لال فرعون يمارسون ضدكم كل ألوان العذاب القاسي ،فيقتلون كل مولودٍ ذكر يولد لكم ،ويبقون نساءكم إماءً لهم ،وهذا هو البلاء العظيم الذي أنقذكم منه ،بطريقةٍ معجزةٍ غير عاديّة .فهل يملك غير الله ،من آلهة هؤلاء ،أو من الالهة التي تريدون صنعها ،أن ينقذكم من ذلك ؟!فكروا جيداً وستعلمون ما معنى أن يكون الإنسان مؤمناً بالله الواحد الذي لا شريك له ،وستكتشفون أنكم كنتم تقولون ما لا تعلمون وما لا تعقلون .
وقفةٌ تأمليّةٌ أمام هذه الآيات
ما معنى هذا الطلب من هؤلاء الذين جاهد موسى ليحرّرهم من فرعون على أساس رسالة الله وكلمة التوحيد ،ليكونوا القاعدة القوية لحركة الرسالة الممتدة نحو تحرير المجتمع كله ؟!فنحن نعلم أن جهاد موسى لم يندفع من موقعٍ عائليٍّ أو قوميٍّ ،بل ارتكز على الموقع الرساليِّ الذي يجد في المستضعفين قوةً صالحةً للتحرك ،ويجدإلى جانب ذلكفي بني إسرائيل آنذاك ،جماعةً قريبة الصلة بالإيمان ،وبما يمثّله من قيم ،لأنهم يشكّلون الطرف المضطهد المعارض للعقليّة الفرعونية وما تمثله من انحرافٍ .
ومن هنا نعرف مأساة موسى مع قومه ،ومدى ما كان يحسُّه من خيبة الأمل ،بعد الصراع العنيف الذي خاضه ضدَّ فرعون ،والمواقف الهائلة التي واجهها ،من ملاحقة القوم الكافرين له ،ومن خوضه البحر ببني إسرائيل في معجزةٍ إلهيّةٍ عظيمةٍ ،فأيّ طلبٍ هو هذا الطلب ؟!فأين الرسالة ،وأين التوحيد ؟وماذا عن إله موسى الذي كانت الدعوة إلى توحيده سبباً في كل ما حدث ؟ألم تكن تلك المعجزات والخوارق كافيةً لتركيز هذا الإيمان ،كما آمن السحرة في موقف التضحية الرائعة من أجل إعلاء كلمة الله ،والانسجام مع رسالته ؟
ليس هناك تفسيرٌ لهذا الطلب إلاّ أنه تعبيرٌ عن الطفولة الفكرية التي يعيشونها ،فربما لم يشاهد قوم موسى الأصنام الحجرية في بلادهم من قبل ،حتّى إذا شاهدوها كانت الصورة مشوّقةً لهم في أن يكون لهم إلهٌ يلمسونه ويرونه في لعبةٍ عباديّةٍ حالمة ،أو أنهم تذكّروا أصنامهم التي كانوا يعبدونها في ظل فرعون ،عندما رأوا أصنام الآخرين .
ولم يفقد موسى هدوء الرسول ،فقد كان مزاج الرسالة هو الذي يحدّد له مشاعره ،لا مزاج الإنسان العادي ،فكان جوابه مزيجاً من عنف الحكم على عَبَدة الأصنام بالهلاك والضلال وبطلان العقيدة والعبادة ،ومن العقاب المرير لقومه ،والتذكير بفضل الله عليهم ،حيث أخرجهم من ظلمة الاضطهاد والعبودية إلى نور الطمأنينة والحرية ،والإعلان لهم بأن قضية الإله ليست موضوعاً يمارس فيه الإنسان دوره في الاختيار والتغيير والتبديل ،بل هو الحقيقة التي تهزّ أعماق الإنسان وتنير حياته ،لتفرض نفسها في وعيه ووعي الكون كله .
استيحاء الفكرة في الحاضر
ولعلّنا نجد في بعض مجتمعاتنا الإسلامية ما يشابه هذه الطفولة الفكرية ،ولكن في مجال آخر ،فقد يكتشف بعض الناس من الحاكمين أو المحكومين ،تقليعةً جديدةً من تقاليع الكفر والضلال ،أو شكلاً معيَّناً من أشكال الحياة ،أو تفكيراً خاصاً مطروحاً في الساحة الفكرية ،من قبل تيارات الشرق والغرب ،فيواجهونه ،كما يواجه الإنسان الأشياء الجديدة في حياته ،بالإعجاب والدهشة والتمنّي الطفوليّ باقتناء مثله أو احتذائه ،لا لشيء إلا للشعور بالغيرة ،أو حب التقليد والمحاكاة ومشاركة الآخرين أوضاعهم وأفعالهم ،ممّا يسبّب وقوعهم في كثيرٍ من الأخطاء والانحرافات والارتباكات في حياتهم العامّة والخاصة ،عندما تتحول إلى قطعٍ منفصلةٍ ترتبط كل قطعةٍ منها بفكرةٍ تختلف في جذورها ومعطياتها وأشكالها عن فكرةٍ أخرى ،فيتحول الإنسان إلى مسخٍ مشوّهٍ ،وتضيع الشخصية لتتوزّع بين عدّة شخصيّاتٍ متنوعةٍ في الشكل والجوهر ،كما نشاهد ذلك في واقع المجتمعات الإسلامية التي تفكر على أساسٍ إسلاميٍّ في بعض جوانب الحياة ،وتفكر على قاعدةٍ غير إسلاميّة في جانبٍ آخر ،فتختلف ممارساتها العملية في السلوك الاجتماعي عن ممارساتها في السلوك الاقتصادي والسياسي أو غير ذلك ،انطلاقاً من عقليّة بني إسرائيل ،التي تجعلهم يتوجّهون إلى قادتهم بأسلوب التمنّي أو الضغط ،في أن يجعلوا لهم تخطيطاً يشابه تخطيط الآخرين ،وسلوكاً يماشي طريقتهم في السلوك ،كما رأيناهمفي الآيات المتقدمةيطلبون من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة ،ولكن المنطق الرسالي الذي يفرض خطأ ذلك التفكير هو الذي يفرض خطأ تفكيرنا الجديد ،لأن القضية واحدة في جذورها وإن اختلفت في شكلها ،فالحقيقة واحدة لا تخضع للرغبات والنوازع الذاتية ،بل للظروف الواقعية الموضوعية التي شاركت في وجودها ،فهي التي تقرر أمر بقائها وزوالها .