{مِيقَاتُ}: وقت معين يُقرَّرُ فيه عمل من الأعمال .
{اخْلُفْنِي}: كن خليفتي من بعدي .
الله يواعد موسى( ع ) وينزل عليه الألواح
كانت مرحلة موسى حتى الآن ،مرحلة الصراع مع فرعون وقومه ،من أجل القضاء على الطغيان الفرعوني الذي كان يتحرك في جوّ الفكر الكافر ،لإبعاد الناس عن توحيد الله ،وفي جوّ الممارسة الظالمة لإبعاد الحياة عن ساحة الحرية والعدل ،وكانت معركة موسى على هذا الصعيد تتحرّك في أكثر من اتجاه وتعتمد أكثر من أسلوبٍ ،فكان يؤكّد على نقطتين رئيسيتين في نطاق الهدف المرحلي المعلن: الدعوة إلى التوحيد المتحرك في خط العدل ،وتحرير بني إسرائيل .
ولم يكن هناك مجالٌفي ما يبدوللحديث عن برنامجٍ فكريٍّ وتشريعيٍّ متكامل ،يحدّد فيه الأهداف الكبرى للإنسان ،والمفاهيم الصحيحة لقضايا الحياة ،والشريعة الكاملة الشاملة لتفاصيلها الدقيقة في حركته في الكون ،تلك الشريعة التي تنظّم له أعماله وأقواله ومعاملاته وعلاقاته العامة والخاصة ،من أجل تنمية طاقاته الفكرية والروحية والعملية ،لتحويلها إلى قوّةٍ فاعلةٍ تتناسب مع خلافته في الأرض .واستطاعت المعركة أن تهزم الطغيان الفرعوني ،وتحرّر قوم موسى بقدرة الله ،وانفتح للنبيّ موسى أفقٌ جديدٌ وهو يقود بني إسرائيل من أجل أن يحقّق للإيمان أهدافه .فماذا يفعل ؟وما الخطوات الفكرية التي تنظِّم لهم خط تفكيرهم ،وتجعلهم يمثلون وحدةً فكريةً في ما ينطلقون به من تصوّراتٍ وتحليلاتٍ للمشاكل التي تحاصرهم ،وللمفاهيم التي تواجههم في آفاق الصراع ،وتنظم لهم خطّ حياتهم ،في ما يتحركون به من مشاريع وأوضاعٍ ووسائل وأهدافٍ وعلاقاتٍ ؟هل يبدأ ليفكر ذاتياً في ذلك كله ،لتكون الفكرة فكره الذاتي ،ولتكون الشريعة شريعته الخاصة ، كما هم المصلحون الذين يتحركون من موقعٍ شخصيٍّ في عملية الإصلاح ،فتكون الرسالة رسالةً بشريّةً لا إلهيةً ؟
ولكنّ موسى رسولٌ من قبل الله ،وقد أعلن في بداية مواجهته لفرعون صفته الرسالية ،وأنه لا يقول على الله إلا الحق ، وبذلك حدّد المنطلق لمسيرته في الفكر والتخطيط والتشريع .إنه ينتظر وحي الله ،ليرسم المنهج ،وليركّز الخط ويطلق الشريعة ، ليكون برنامجه دين الله وشريعته ،لا دين موسى وشريعته .وهكذا انتظر موسى في المرحلة الجديدة أن ينزل عليه الوحي ،وأن يفصِّل الله له الشريعة ،وجاء وعد الله له بذلك ،وحدّد له موعداً معيّناً ،وأخبره أن الكتاب سينزل عليه جملةً وتفصيلاً ،وأن عليه أن يستوعبه في قلبه قبل أن يكتبه في الألواح ،وأن يفكر فيه ليعرف خصوصيات القضايا من خلال الخطوط العامة ،وأن يتطلّع إلى آفاق الكتاب كيف تحتوي الحياة في رحابها الواسعة ،ليعود إلى قومه حاملاً لهم خط النظرية ،وميزان التطبيق .وعاش في هذا الجوّ تجربةً فريدة صاعقةً هزت كيانه ،وعرّضته لموقف صعبٍ محرجٍ مع الله .وهذا ما نستوحيه من جولتنا في هذه الآيات .
الله يواعد موسى( ع ) أربعين ليلة
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .فقد أراد الله له أن يأتي إلى موعده معه ،ليغيب عن قومه وعن حركته العادية اليومية معهم أربعين ليلة ،فكيف كانت ثلاثين ،ثم أتمها الله بعشر ؟هل هو إتمام طارىء للموعد ؟وكيف ينسجم ذلك مع الله الذي لا تختلف كلمته ،ولا يتخلّف وعده ،تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ؟الظاهروالله العالمأن المسألة لا تعدو أن تكون تفصيلاً تعبيرياً فنياً عن الأربعين ،باعتبار أن الثلاثين تمثّل وحدةً زمنيةً هي الشهر ،فتكون الليالي العشر زيادةً على هذه الوحدة ،منفصلةً عنها في المفهوم متصلةً بها في الزمن ،ولهذا جمعها في نهاية الفقرة .
هارون يخلف موسى في قومه
{وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} فلا بدّ لهم من أن يعيشوا مع القيادة الروحية ،التي تبقي لهم الجو الروحي الذي يربطهم بالله ،ويذكرهم بخط الإيمان ،ويهيّىء جوّهم العقلي والروحي لاستقبال الكتاب الإلهي في المرحلة الجديدة ،لأن ابتعادهم عن القيادة قد يبعدهم عن الأجواء الإيمانية ،ويُسلِّمهم إلى الذكريات المنحرفة ،ويدفعهم إلى العودة إلى رواسب ذلك التاريخ من خلال عقليّة الشّرك المنفتح على الذلّ والعبودية في شخصياتهم المسحوقة تحت وطأة الاستعباد ،فربّما يحتاج هؤلاء إلى الرعاية الدائمة من أجل إكمال عملية البناء الجديد للشخصية ،بعيداً عن كل مؤثرات الشخصية القديمة .
وهكذا أراد موسى لأخيه هارون أن يخلفه في قومه ،ووضع له الخطّ العريضخط الرسالاتفي إدارة شؤون الإنسان والحياة{وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} .إنه خط الإصلاح في مضمونه الفكري ،وفي طريقة تنفيذه ،وفي إدارة حركة العلاقات فيما بين الناس من خلافات ومنازعات وما يتعرضون له من تعقيدات الواقع .هذا في الجانب الإيجابي للخطّ ،أمّا في الجانب السلبي منه ،فهو الامتناع عن اتّباع سبيل المفسدين في إثارة المشاكل ،وتعقيد العلاقات ،وضعف الإدارة ،واهتزاز الإرادة ،وتوجيه الأوضاع في اتجاه الأنانيات والذاتيات والعصبيات ...وغير ذلك من الأمور التي تعزل الإنسان عن الساحة الرحبة الشاملة للحياة ،وتحوّله إلى كائن سلبي يدور حول نفسه أو عصبيته ،بعيداً عن الأجواء الإنسانية العامة .
ولكن كيف يطلب من هارون ذلك ؟ألم يكن شريكاً له في المهمّة وفي النبوّة ؟هل هو بحاجةٍ إلى مثل هذه الوصية ؟والجواب: ليس معنى هذا أنّ هارون كان لا يملك معرفة خطّ السير الذي تسير عليه النبوّات ،بل ربما أراد موسى من هذا التوجيه أن يؤكد له الفكرة من خلال الإيحاء له بالمهمة الصعبة التي تنتظره في مجال التطبيق ،في ما يعرفهمن خلال التجربة القاسيةمن ضيق أفقهم ،وطفولتهم الفكرية ،والجدب الروحي الذي يهيمن على واقعهم الداخلي ،وربما أراد من ذلك أن يوحي لقومه بأن خط الإصلاح والبعد عن الفساد ليس أمراً مرهوناً بوجوده ،ليكون التزامهم به التزاماً من حيث الإخلاص للشخص على أساس ما يمثّله من قوّةٍ لديهم ،بل هو أمرٌ يحكم حياتهم في حال وجوده وغيابه ،لأنه منطلق من رسالة الله التي تفرض على الإنسان أن يراقب ربّه قبل أن يراقب أيّ إنسانٍ آخر .