{تَجَلَّى}: تجلِّي الشيء: ظهوره بنفسه أو بآثاره ودلائله .
{وَخَرَّ}: سقط .
{صَعِقًا}: مغشيّاً عليه .
موسى يسأل الله تعالى رؤيته
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} .ووصل موسى إلى الموعد الذي قطعه له ربّه ،وكلّمه الله في ما يريد أن يوحي به إليه ،واندمج موسى في الجوّ الإلهي ،وشعر بالسعادة تغمر قلبه ،ففاضت روحه بالأشواق الروحية ،في ما توحيه كلمات الله إليه وما تمثّله من معاني القرب منه ،والوصول إلى الدرجة العليا من رضوانه ،وبما توهّج في كيانه من إشراق النور الإلهي في لحظةٍ روحيّة حالمة ،فطلب من ربّه أن ينظر إليه ،فقال:{رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} فقد خيّل إليه أن من يسمع كلام الله يستطيع أن يراه ،أو يمكن له أن يطلب رؤيته .وهنا يقف المفسّرون وقفة حيرةٍ فلسفيةٍ كلاميّةٍ ،فكيف يمكن لهذا النبي العظيم أن يطلب مثل هذا الطلب المستحيل من ربّه ؟وهو يعرف من خلال سمو درجته ،ورفعة منزلته في عالم المعرفة بالله ،أنّ الله ليس جسداً مادياً محسوساً حتى تمكن رؤيته فهو ليس كمثله شيء ؟!وأجاب بعضهم بأنّ المراد بالنظر الرؤية القلبية ،وهي كناية عن العلم الواسع بالحقيقة الإلهية .وأجاب آخرون بأنه لم يسأل ربّه انطلاقاً من قناعةٍ بالسؤال أو من انسجام معه ،بل كان سؤاله استجابةً لسؤال قومه الذين رافقوه إلى الموعد الإلهيّ ؛فأراد أن يجعلهم وجهاً لوجه أمام الجواب الصاعق على هذا السؤال .
ولكنّنا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال ،فقد لا نستبعد من ناحية التصور والاحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية ،لأن الوحي لم يكن قد تنزّل عليه بذلك ،ولم يكن هناك مجالٌ واسع للتأمل والتحليل الفلسفي حول استحالة تجسّد الإله أو إمكانه ،لأن ذلك قد لا يكون مطروحاً لدى موسى( ع ) .ونحن نعرف تماماً معنى التكامل التدريجيّ للتصوّر الإيمانيّ في شخصية الرسول الفكرية .
ولهذا فإننا نحاولهناأن نسجّل تحفظنا على الكثير من الأحكام المسبقة التي تحاول تطويق النص القرآني ببعض الاستبعادات الذاتيةكما في مثل هذه الآيةفإننا نلاحظ أن تصوّرنا لشخصية الأنبياء يبدأ من القرآن ،في ما يحدثنا عنهم من أحاديث ويسبغه عليهم من صفات ،فهو المصدر الأساس الأمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ونحن نرى أنّ الحديث القرآني يركّز في بعض آياته على نقاط الضعف لدى الأنبياء ،كما يركّز على نقاط القوة عندهم ،من موقع بشريتهم التي يريد أن يركّزها في التصوّر القرآني في أكثر من اتجاه .فهل نريد أن ندخل في مزايدةٍ كلاميّة على القرآن في ما يتعلق بمثل هذه الأمور ،فنفرض لأنفسنا تصورات معينة للأنبياء ،ثم نحاول تأويل كلام الله بطريقةٍ لا يتقبلها النص في بعض الأحيان ؟!إنّنا نفهم التأويل حملاً للّفظ على خلاف الظاهر ،على أساس المجاز أو الكناية أو ما يقترب منهما ،ولا بد للخروج من الظاهر أن يكون هناك دليلٌ لفظيٌّ أو عقليٌّ حتى نصرف اللفظ عن الظاهر من خلاله .ولا نجد شيئاً من ذلك في موضوع هذه الآية ،فليس هناك مانعٌ من إرادة النظر بالمعنى الحسّي في ما طلبه موسى ،بل هو الظاهر الواضح جداً في أجواء الآية من خلال التجربة التي قدّمها الله أمامه ،في ما تعطيه كلمة التجلّي من أجواء استحالة الرؤية البصرية في ما وجّهه الله للجبل من نوره الذي لا يستطيع الجبل أن يتماسك معه ،فكيف لو كان التجلّي له( ع ) ؟ثم لو كان المراد الرؤية القلبية ،لما كان هناك وجهٌ قريب لهذه التجربة في انهيار الجبل ،في ما تعطيه من معنى ماديٍّ للمسألة ،لأنّ الجبل لا يحمل أيّة إشارة للجانب القلبي في الموضوع في تأثّره بنور الله .
الله يتجلى للجبل فيتهاوى
{قَالَ لَن تَرَانِي} ،لأنّ الرؤية لا تكون إلاّ للمحدود الذي يحمل خصائص مادية ،وذلك يستحيل بالنسبة إلى الله الذي لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء .{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .إنّها التجربة التي تعطي لموسى فكرةً توضيحيةً للمسألة المطلوبة ،ولكن من جانبٍ آخر ،أراد الله له أن ينظر إلى هذا الجبل العظيم ،وهو يتهاوى قطعةً قطعةً حتى يتحوّل إلى رميمٍ أمام التجلي الإلهي ،الذي قد يكون كنايةً عن تسليط نوره عليه ،فكيف يمكن لمخلوقٍ مثله أن يواجه نور الله ،فضلاً عن أن يواجه الله بذاته ،لو كان ذلك أمراً ممكناً في نفسه ؟!{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} بنوره ،{جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} ،أي مصعوقاً من هول الصدمة المرعبة حتى أغمي عليه ؛{فَلَمَّآ أَفَاقَ} وتجلّت له الحقيقة الإلهية في جلال العظمة التي لا يقترب منها بصر ولا يحيط بها فكر ،وشعر بأنه قد تجاوز الحدّ في طلبه للرؤيةسواءً كان ذلك منطلقاً من رغبةٍ ذاتية يحس بها في نفسه ،أو كان منطلقاً من رغبة قومه إليهرجع إلى الله وأناب ،وأعلن التوبة كتعبيرٍ عن الندم الروحي ،دون أن يكون في ذلك عصيانٌ ،حتى لا ندخل في مسألة العصمة التي تنفي المعصية .{قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} في إحساسٍ عميق بالعظمة الإلهية يدفعه إلى التسبيح ،وفي شعورٍ بالندم يدعوه إلى التوبة .{وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} في الدرجة العالية من الإيمان الذي ينطلق ليسبِّح الله في آفاق عظمته بالفكر والكلمة والشعور ،وفي آفاق شريعته بالطاعة والإخلاص والخشوع .