/م142
{ ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك} أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقتناه له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه عز وجل من وراء حجاب بغير واسطة الملك استشرفت نفسه الزكية العالية للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فقال:رب أرني ذاتك المقدسة بأن تجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك ورؤيتك وكمال المعرفة بك بالقدر الممكن أي دون ما هو فوق إمكان المخلوقين من الإدراك والإحاطة المنفي بقوله تعالى:{ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [ الأنعام:103] فيراجع تفسير هذه الآية من سورة الأنعام ( ج 7 تفسير ) .
{ قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} أي إنك لا تراني الآن ، ولا فيما تستقبل من الزمان ، ثم استدرك تبارك وتعالى على ذلك بما يدل على تعليل النفي ، ويخفف عن موسى شدة وطأة الرد ، بإعلامه ما لم يكن يعلم من سنته ، وهو أنه لا يقوى شيء في هذا الكون على رؤيته كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى عن مسلم ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ){[1243]} فقال:ولكن انظر إلى الجبل فإنني سأتجلى له فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا في مكانه فسوف تراني ، لمشاركتك له في مادة هذا العالم الفاني ، وإذا كان الجبل في قوته ورسوخه لا يثبت ولا يستقر لهذا التجلي لعدم استعداد مادته لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء فاعلم أنك لن تراني أيضا وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية في قوتها وضعف استعدادها{ وخلق الإنسان ضعيفا} [ النساء:28] وقبولها للفناء .
روى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال:لما سمع الكلام طمع في الرؤية وروى أبو الشيخ عن ابن عباس قال حين قال موسى لربه تبارك وتعالى:{ أرني أنظر إليك قال} له يا موسى إنك ( لن تراني ) قال يقول ليس تراني ، لا يكون ذلك أبدا ، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى رب أنا أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا .فقال الله يا موسى ( انظر إلى الجبل ) العظيم الطويل الشديد ( فإن استقر مكانه ) يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمى ( فسوف تراني ) أنت لضعفك وذلتك ، وإن الجبل تضعضع وانهد بقوته وشدته وعظمه فأنت أضعف وأذل اه .
{ فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا} يقال جلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى بنفسه أو بغيره وجلاه فتجلى- إذا انكشف وظهر ووضح بعد خفاء في نفسه ذاتي أو إضافي أو خفاء على مجتليه وطالبه .ويكون ذلك التجلي والظهور بالذات وبغير الذات من صفة أو فعل يزول به اللبس والخفاء ، وفي صيغة التجلي ما ليس في صيغة الجلاء والانجلاء من معنى التدريج والكثرة النوعية أو الشخصية قال تعالى:{ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [ الليل:1 ، 2] فالليل يغشى النهار ويستره ثم يتجلى النهار ويظهر بالتدريج وفي الأحاديث إن للرب تعالى تجليات مختلفة كما سيأتي .
والدك الدق أو ضرب منه .قال في الأساس:دككته دققته ، ودك الركية كبسها ، وحمل أدك وناقة دكاء:لا سنام لهما ، واندك السنام:افترش على الظهر ونزلنا بدكداك:رمل متلبد بالأرض اه .وأقول:إن الفرق بين الدق والدك كما يؤخذ من استعمال العالم الموروث عن العرب أن الدق ما يخبط به الشيء ليتفتت ويكون أجزاء دقيقة ومنه الدقيق .وكان القمح في عصور البداوة الأولى يدق بالحجارة فيكون دقيقا ثم اهتدوا إلى الأرحية التي تسحقه وتطحنه .وأما الدك فهو الهدم والخبط الذي يكون به الشيء المدكوك ملبدا ومستويا ، يقال أرض مدكوكة وطريق مدكوكة ، ودك الحفرة والركية ( أي البئر غير المطوية ) دفنها وطمها ولا تزال سلائل العرب تستعمل هذه المادة بهذا المعنى ويسمون ما يوضع في الحفرة أو الركية من الحصا والحصباء لأجل تسويتها"الدكة ".قرأ حمزة والكسائي ( جعله دكاء ) بالمد والتشديد غير منون أي أرضا مستوية كالناقة التي لا سنام لها والجمهور ( جعله دكا ) بالمصدر أي مدكوكاً دكاً ، ومثله في السد من سورة الكهف .
والخرور والخر السقوط من علو والانكباب على الأرض ومنه{ يخرون للأذقان سجدا} [ الإسراء:107] والصعق بكسر العين صفة من الصعق وهو ما يكون من تأثير نزول الصاعقة من موت أو إغماء ثم توسع فيه بإطلاقه على ما يشبه ذلك .قال الفيومي في المصباح:صعق صعقا من باب تعب:مات ، وصعق غشي عليه لصوت سمعه ، والصعقة الأولى النفخة ، والصاعقة النازلة من الرعد ، والجمع صواعق ، ولا تصيب شيئا إلا دكته وأحرقته اه .
وأحسن ما ورد في التفسير المأثور لهذه الآية مطابقا لمتن اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس{ فلما تجلى ربه للجبل} قال:ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جعله دكا ) قال ترابا ( وخر موسى صعقا ) قال مغشيا عليه اه وما رواه ابن المنذر عن عكرمة أنه – أي الجبل- كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكاوات –أي مستويا بالأرض .ولولا ذلك لجاز أن يقال إن صيرورته ترابا وإن كان بمعنى الدكاء والمدكوك لا ينافي استقرار الجبل مكانه وقد ورد في بعض الآثار والأحاديث المرفوعة أيضا أنه ساخ أي غاص في الأرض ، وهو يتفق مع المعنى الأول ، أي أنه رج بالتجلي رجا ، بست بها حجارته بساً ، وساخ في الأرض كله أو بعضه في أثناء ذلك حتى صار كما قال بعضهم ربوة دكاء كالرمل المتلبد .
والمعنى فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهدَّ وهبط من شدته وعظمته وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء –وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة ، والتجلي إنما كان للجبل دونه فكيف لو كان له ؟
وقد روي في تفسير هذه الآيات من الأخبار والآثار الواهية والموضوعة غرائب وعجائب أكثرها من الإسرائيليات .أمثل المرفوع منها ما روي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} قال:ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره"فساخ الجبل "وفي لفظ زيادة ( وخر موسى صعقا ) فقال حميد الطويل لثابت:ما تريد إلى هذا ؟ فضرب صدره أي صدر حميد وقال من أنت يا حميد ؟ وما أنت يا حميد ؟ يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت ما تريد إلى هذا ؟{[1244]} رواه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وأبناء جرير والمنذر وأبي حاتم وعدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الرؤية وقد انفرد به عند مصححيه حماد بن سلمة وهو من رجال مسلم إلا أنه قد تغير حفظه في آخر عمره كما هو معلوم وله طريقان آخران عند داود بن المحبر وابن مردويه لا يصحان كما قال الحافظ ابن كثير .والمراد من التمثيل بالإبهام والخنصر أن ذلك أقل التجلي وأدناه ، وسيأتي من الصحيح ما يؤيد معناه .
ومن أنكر هذه الروايات وأوهاها ما روي عن أنس مرفوعا ( لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاث بالمدينة وثلاثة بمكة ...) وذكر أسماءها قال الحافظ ابن كثير وهذا حديث غريب بل منكر .أقول ولا يدخل من ألفاظ الآية ولا معناها في شيء .
{ فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين} أي ( فلما أفاق ) موسى من غشيه والتعبير بالإفاقة يدل على صحة تفسير ابن عباس والجمهور للصعق بالغشي وبطلان تفسير قتادة له بالموت وقال به بعض شذاذ الصوفية وادّعوا أنه رأى ربه فمات ، أو مات ثم رأى ربه ، ولو مات لقال تعالى:( فلما بعث ) الخ قال في السبعين الذين اختارهم من قومه وذهبوا معه إلى الجبل وطلبوا منه أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فإنه قال:{ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون} [ البقرة:56] كما في سورة البقرة ، وسيأتي خبرهم في هذه القصة من هذه السورة- ( قال سبحانك ) أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألتك أو من لوازمه- أو كما حكى تعالى عن نوح عليه السلام{ أن أسألك ما ليس لي به علم} [ هود:47] وأكثر مفسري أهل السنة يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى ونفي العلم إنما يصح عندهم بمعنى إن ما سأله غير ممكن أو غير واقع في هذه الحياة الدنيا ، لا أنه غير ممكن في نفسه وغير واقع البتة ولا في الآخرة .ومعنى التوبة الرجوع والمراد هنا الرجوع عما طلب ، إلى الوقوف مع الرب تعالى عند منتهى حدود الأدب .
قال مجاهد ( تبت إليك ) أن أسألك الرؤية ( وأنا أول المؤمنين ) قال ابن عباس ومجاهد:أي من بني إسرائيل ، في رواية أخرى عن ابن عباس:وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد ، ذكرهما الحافظ ابن كثير وقال:وكذا قال أبو العالية:قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة .قال:وهذا قول حسن له اتجاه .وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم اه .
خلاصة معنى الآية أن موسى عليه السلام لما نال فضيلة تكليم الله تعالى له بدون واسطة فسمع ما لم يكن يسمع قبل ذلك وهو من الغيب الذي لا شبه له ولا نظير في هذا العالم طلب من الرب تبارك وتعالى أن يمنحه شرف رؤيته وهو يعلم حتما أنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته التي منها كلامه عز وجل فكما أنه سمع كلاما ليس كمثله كلام بتخصيص رباني –استشرف لرؤية ذات ليس كمثلها شيء من الذوات ، كما فهم من ترتيب السؤال على التكليم ، فلم يكن عقل موسى- وهو في الذروة العليا من العقول البشرية بدليلي العقل والنقل- مانعا له من هذا الطلب ، ولم يكن دينه وعلمه بالله تعالى وهما في الذروة العليا أيضا مانعين له منه .ولكن الله تعالى قال له:{ لن تراني} ولكي يخفف عليه ألم الرد وهو كليمه الذي قال له في أول العهد بالوحي إليه{ واصطنعتك لنفسي} أراه بعينيه ومجموع إدراكه من تجليه للجبل بما لا يعلمه سواه أن المانع من جهته هو لا من جانب الجود الرباني ، فنزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب ، فبشره الله تعالى بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه أي دون رؤيته ، وأمره بأن يأخذ ما أعطاه ، ويكون من الشاكرين له .
/خ144