/م138
{ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين} أي قال لهم موسى أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السماوات والأرض وكل شيء والحال أنه فضلكم على العالمين ، لما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين ، على ملة إبراهيم وسنة المرسلين ؟ فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه ؟ والاستفهام في الآية للإنكار المشرب معنى التعجب ، وإنما وهو إنكار ابتغاء إله غير الله المستحق وحده للعبادة لا إنكار تسمية المعبود المصنوع إلها .وأبغي ينصب مفعولين بنفسه كقوله تعالى:{ يبغونكم الفتنة} [ التوبة:47] .
بدأ موسى عليه السلام جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال ، وباطلا في نفسه على كل حال ، فلا الطالب على علم وعقل فيما طلب ، ولا المطلوب مما يصح أن يطلب ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) فهذا ملخص معنى الآية السابقة .
ثم انتقل في هذه الآية إلى المطلوب منه جعل الإله لهم – وهو عليه السلام- والمطلوب لأجله هذا الجعل –وهو الله تعالى- وموسى على الحق والله تعالى هو الحق والذي يحق الحق ، وبين هذين الحقين وذينك الباطلين غاية المباينة فلذلك كان هذا جوابا مستقلا مباينا لما قبله بحيث لا ينبغي أن يعطف عليه عطفا ، ولا أن يعد معه عدا ، ولهذا أعاد فيه كلمة"قال "كما سنبينه .وقد قدم فيه ذكر الأهم الأفضل المقصود بالذات من هذين الحقين فقال ( أغير الله ) فغير الله أعم الألفاظ الدالة على المحدثات فهو يشمل أخس المخلوقات وأعجزها من النفع والضر كالأصنام ، ويشمل أفضلها وأكلمها كالملائكة والنبيين عليهم السلام ، ليثبت أنه لا يوجد مخلوق يستحق العبادة مع الله تعالى وإن علا قدره ، وعظم أمره ، وإن تجهيلهم بما طلبوا لا لأن المطلوب كالأصنام خسيس وباطل في نفسه ، وعرضة للتبار فلا فائدة فيه لغيره ، -لا لهذا فقط- بل لأن العبادة لا يصح أن تكون لغير الله تعالى البتة ، مهما يكن غيره مكرما عنده ، ومفضلا على كثير من خلقه ، على أن طلب عبادة الأخس ، دليل على منتهى الخسة والجهل ، إذ لا شبهة توهم قدرته على الإثابة أو التقريب من الله عز وجل ، كشبهة من عبدوا الملائكة وبعض النبيين والصالحين ، زاعمين أنهم بكرامتهم عند الله يقربون إليه من قصر به إيمانه وعمله أن يتقرب إليه بنفسه ، مع إصراره على خبثه ورجسه ، جاهلين أن الله تعالى أمر المشركين والفاسقين ، أن يتوبوا أي يرجعوا إليه لا إلى غيره من عباده المكرمين ، وأن يدعوه وحده كدعائهم مخلصين له الدين ، وإن يخصوه مثلهم بالعبادة والاستعانة وذلك ما فرضه علينا في صلاتنا بقوله:{ إياك نعبد وإياك نستعين} [ الفاتحة:5] .
وبعد أن قدم المقصود بالذات من الإنكار وهو جعل غير الله إلها ذكر من أرادوا أن يكون الواسطة في هذا الجعل ، الذي دعا إليه ذلك الجهل ، وهو نفسه عليه السلام بقوله{ أبغيكم إلها} ليعلمهم أن طلب هذا الأمر والشيء والمنكر الفظيع منه عليه السلام جهل قيمته ، وبمعنى رسالته ، وبما رأوه من جهاده لفرعون وقومه ، من غير حول ولا قوة له في شخص أخيه ولا في شخصه ، بالاتكال على حول الله وقوته ، ولولا إرادة إنكار الأمرين معا:طلب إله مع الله ، وكونه بجعله عليه السلام –لقال:أغير الله تبغون إلها .كقوله تعالى:{ أفغير دين الله يبغون} [ آل عمران:83] .
ثم أيد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم ، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم ، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوة والحضارة وسعة الملك ومن السيادة على بعض الشعوب ، وقد فضل الله بني إسرائيل عليهم ، برسالة موسى وهارون منهم ، وتجديد ملة إبراهيم فيهم ، وإيتائهما من الآيات ما تقدم بيانه وأثره في السياق الذي قبل هذا ، وقيل إن المراد تفضيلهم على العالمين مطلقا بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم ، والأول أظهر ، لأنه عليه السلام احتج عليهم بما عرفوا فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى وأقوام رسلهم وعلى من سيأتي بعدهم ، وحال كل منهما مجهول عنده وعندهم ، فقد سأل فرعون موسى عن القرون الأولى فقال{ علمها عند ربي} والقرون الآخرة بذلك أولى .وأنت إذا قلت لغني أو عالم إنك أغنى أو أعلم الناس ، أو لملك:إنك أقوى الملوك ، أو في شعب إنه أرقى الشعوب –فإن أحدا لا يفهم من مثل هذا تفضيل من ذكر على غير أهل زمانهم ، ولاسيما من يأتي بعدهم ، وأهل الحضارة في زماننا يعتقدون أن الأجيال الآتية سيكنون خيرا من هذا الجيل ، وكان موسى يعلم أن هداية الدين ، سترتقي إلى أن تكمل برسالة خاتم النبيين ، ولكنه أوتي هذا العلم بما أوحاه الله إليه في التوراة ولم يكن نزل منها شيء عند طلب بني إسرائيل منه ما ذكر .