إعادة لفظ{ قال} مستأنفاً في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى:{ قال أغير الله أبغيكم} تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى:{ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو} إلى قوله{ قال فيها تحيون} من هذه السورة ( 24 ،25 ) .
والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول ،أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم ،وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم ،وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدَلي ،أي: لو لم تكن تلك الآلهة باطلاً لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يُشاركهم في حماقتهم .
والاستفهام بقوله:{ أغير الله أبغيكم إلاهاً} للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهاً غير الله ،وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهاً ،فتقديم المفعول الثاني للاختصاص ،للمبالغة في الإنكار أي: اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهاً .
وهمزة{ أبغيكم} همزة المتكلم للفعل المضارع ،وهو مضارع بغَى بمعنى طلب ،ومصدره البَغاء بضم الباء .
وفعله يتعدى إلى مفعول واحد ،ومفعوله هو{ غيرَ الله} لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه .
وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال ،وأصل الكلام: أبغي لكم و{ إلاهاً} تمييز ل{ غير} .
وجملة:{ وهو فضلكم على العالمين} في موضع الحال ،وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله ،كانت الحال أيضاً داخلة في حيز الإنكار ،ومقررة لجهته .
وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوماً عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار ،ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق .
ومجيء المسند فعلياً: ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي: وهو فضلكم ،لم تفضلكم الأصنام ،فكان الإنكار عليهم تحميقاً لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا يُنعم .
والمرادُ بالعالمين: أممُ عصرهم ،وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ ،وبأن منهم رسلاً وأنبياء ،وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه ،وبأنه جعلهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً ،وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته ،وبعث فيهم رسولاً ليقيم لهم الشريعة .وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ ،ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم ،وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم ،لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول ،لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافاً بأنه أرجح رأياً وأحسن حالاً ،في تلك الناحية .