طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم: لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ،وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ،ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ،وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ،ولكلّ مقامً مَقال .والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ .والأمر تكويني ،وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض .
وجملة:{ بعضكم لبعض عدو} في موضع الحال من ضمير:{ اهبطوا} المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ،وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ،والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ،فأحد البعضين هو آدم وزوجه ،والبعض الآخر هو إبليس ،وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ،كانت موروثة في نسليهما ،والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله ،وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس ،ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ،فهي منبثّة في التّفكير والجسد ،ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين .
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ،ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ،وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ،وكون الإسلام دين الفطرة ،وكون الأصل في النّاس الخير .أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ،من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ،لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال .
وعطفت جملة:{ ولكم في الأرض مستقر} على جملة:{ بعضكم لبعض عدو} .
والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى:{ لكل نبإ مستقر}[ الأنعام: 67] وقوله{ فمستقر ومستودع} في سورة الأنعام ( 98 ) .
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض .
والمتاع والتّمتّع: نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ،ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء ،وتقدّم في قوله تعالى:{ لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} في سورة النّساء ( 102 ) .
والحِين المدّة من الزّمن ،طويلة أو قصيرة ،وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ،والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ،وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ،وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ،أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه ،فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع ،وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ،وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .