فقوله:{ ارتضى} مستثنى من عموم{ أحداً} .والتقدير: إلاّ أحداً ارتضاه ،أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى .
والإِتيان بالموصول والصلة في قوله:{ إلاّ مَن ارتضَى مِن رسول} لقصد ما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى تعليل الخبر ،أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس ،فيُعْلم من هذا الإِيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة ،وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه ،وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة ،أو أمور الدنيا ،وما يؤيد به الرسل عن الإِخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى:{ غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين}[ الروم: 24] .
والمراد بهذا الإِطلاعُ المحقق المفيد علماً كعلم المشاهدة .فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ،ففي الحديث: «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة ،أو بالإِلهام» قال النبي صلى الله عليه وسلم «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون فإن يَكُنْ في أمتِي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» رواه مسلم .قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهِمون .
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: أنها تسرُّ ولا تغرُّ ،يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها .
و{ مِن رسول} بيان لإِبهام{ مَنْ} الموصولة ،فدل على أن مَا صْدَقَ{ مَن} جماعةٌ من الرسل ،أي إلاّ الرسل الذين ارتضاهم ،أي اصطفاهم .
وشمل{ رسول} كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام .وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم .
وهنا أربعة ضمائر غيبة:
الأول ضمير{ فإنه} وهو عائد إلى الله تعالى .
والثاني الضمير المستتِر في{ يسلك} وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير{ فإنه} .
والثالث والرابع ضميرَا{ من بين يديه ومن خلفه} ،وهما عائدان إلى{ رسول} أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصَداً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً ،أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه .
والسّلْك حقيقته: الإِدخال كما في قوله تعالى:{ كذلك نسْلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر ( 12 ) .
وأطلق السَّلك على الإِيصال المباشر تشبيهاً له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفاً في قوله:{ ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاباً صعَدَاً}[ الجن: 17] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يَبْلُغَ إليه ما أُوحي إليه من الغيب ،كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم .وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله:{ إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون}[ الحجر: 9] .
والمراد ب{ مِن بين يديه ومن خلفه} الكناية عن جميع الجهات ،ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف .
والرصد: اسم جمع كما تقدم آنفاً في قوله:{ يجد له شهاباً رصداً}[ الجن: 9] .وانتصب{ رصداً} على أنه مفعول به لفعل{ يسلك .