{إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يلقي إليه بالوحي الذي هو من عالم الغيب ،كما يلقي إليه ما يتوقف عليه من الأمور التي قد يحتاج إليها في أمر الرسالة .ولكن هل يجعل لديه مَلَكَةَ العلم بالغيب ،حتى إذا أراد علم شيءٍ علمه ،أو يحدّد له بعض الأشياء بشكل خاص تفصيليّ ،أو يلهمه علم ما يحتاج إليه في بعض حالات الضرورة أو التحدي ؟
هناك وجوهٌ عديدة في المسألة ،وقد يأخذ بكل وجه قائلٌ معيّن ،ولكن الظاهر من الآيات القرآنية أن المسألة ليست مسألة مَلَكَةٍ في داخل شخصية الرسول ،بل هي علم من ذي علم ،يحدّد الله له فيها خصوصيته في نطاق الرسالة لا في نطاق الذات .ولعلّ أبلغ آيةٍ دالةٍ على ذلك هو قوله تعالى:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السّوءُ} [ الأعراف:188] ،ما يوحي بأن النبي لا يملك علم الغيب الذي يقيه من مكاره الدهر من مرضٍ أو بلاءٍ ونحوهما ،أو الذي يطلعه على مواقع الخير ،لأنه لو كان كذلك لاستطاع أن يتفادى السوء عن نفسه ،أو يجلب الخير لها ،وليس معنى ذلك أن النبيّ ليس في مستوى المعرفة الغيبية في ما يمكن أن يمنحه الله من ملكاته القدسية وفيوضاته الربانية ،ولكن قد لا تكون لذلك أيّة ضرورة في ما هي المهمة الموكولة إليه التي يراد من خلالها تأكيد عنصر البشرية فيه ،بما لا يتنافى مع طبيعة رسالاته ،ولا يُعتبر مخالفاً لصفة الكمال العملي والروحي في ما ينبغي أن تتّصف به شخصيته كنبيٍّ مرسل ،لأن الكمال في هذا المجال من الأمور النسبية في الدائرة البشرية من خلال القدرات الطبيعية فيها ،فلا بد من ثبوت أيّة صفة غير بشرية من خلال النصوص القطعية التي تثبت ذلك ،لنؤمن بها في هذه الدائرة الخاصة .
وقد يلاحظ المتأمّل في القرآن أن الآيات تؤكد دائماً على جانب الوحي كفارقٍ بين الناس وبين النبي ،كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك ،للمحافظة على شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع .كما أن هناك نقطة مهمة في سيرته ،وهي أنه لم يعهد عنه التحدث بالمغيّبات في مجتمع المسلمين في ما يتعلق بشؤونهم العامة والخاصة ،لأن رسالته لم تحتج إلى ذلك ،خلافاً لما أخبر به القرآن عن عيسى( ع ) .
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ربما كان هذا شاهداً على أن الغيب الذي يظهر الله رسوله عليه هو الوحي الذي يمثل حالةً غيبيّةً بلحاظ طبيعته وطبيعة الملائكة الذين ينزلون به ،وطبيعة الأجواء المحيطة بذلك كله ،وبعض المفاهيم القرآنية المتصلة بالغيب في ما يتصل بالدنيا والآخرة .وهذا هو الذي يضع الله له الرصد الذي يحفظه من بين يديه ومن خلفه لحمايته من الضياع ومن التحريف ومن الخطأ ،ليكون ذلك أساساً في الرقابة الدائمة التي تحمي الرسول في وعيه للرسالة ،وقدرته على إبلاغها ،وتحمي الرسالة من كل زيادةٍ أو نقصان أو تحريف في ما يمكن أن يعرض لها من الطوارىء والعوارض المتنوعة في ذلك كله .