استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه{ هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً}[ الإنسان: 1] لما فيه من التشويق .
والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة ،فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له: إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً ،فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه .
وتأكيد الكلام بحرف ( إنَّ ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم .
والمراد ب{ الإنسان} مثل ما أريد به في قوله:{ هل أتى على الإنسان}[ الإنسان: 1] أي كل نوع الإِنسان .
وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإِنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة .
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة .
و{ أمشاج}: مشتق من المشج وهو الخلط ،أي نطفة مخلوطة قال تعالى:{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}[ يس: 36] وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا .
وصيغة{ أمشاج} ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد ،فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل ،أي ممشوج ،أي مخلوط مثل ذِبح ،وهذا ما اقتصر عليه في « اللسان » و« القاموس » ،أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب ،أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف .
والوجه ما ذهب إليه صاحب « الكشاف »: أن{ أمشاج} مفرد كقولهم: بُرمة أعشار وبُرد أكياش ( بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين ) .قال: « ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما ( أي مَشج وأمشاج ) مِثلان في الإِفراد اه .وقال بعض الكاتبين: إنه خالف كلام سيبويه .وأشار البيضاوي إلى ذلك ،وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون{ أمشاج} مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه .
فإذا كان{ أمشاج} في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في « الكشاف » .فوصف{ نطفة} به غير محتاج إلى تأويل ،وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد ،كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص ،( فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً ) فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة ،أي شديدة الاختلاط .
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة .
وجملة{ نبتليه} في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة ،أي مريدين ابتلاءه في المستقبل ،أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف ،وهذه الحال كقولهم: مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً .
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة{ خلقنا} وبين{ فجعلناه سَميعاً بصيراً} لأن الابتلاء ،أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير ،فكان مقتضى الظاهر أن يقع{ نبتليه} بعد جملة{ إنا هديناه السبيل}[ الإنسان: 3] ،ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة .
وجيء بجملة{ إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه} تفنناً في نظم الكلام .
وحقيقة الابتلاء: الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته .
وفُرع على خلقه{ من نطفة} أنه جعله{ سميعاً بصيراً} ،وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره ،ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه: سامعاً مبصراً ،لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان ،فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه .
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته ،ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله:{ إنا هديناه السبيل الآيات .