هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها ،وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم .
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف ،وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر .ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله .وقرأها البقية بواو العطف في أولها ،فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها .وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد .
وقوله{ الذين} مبتدأ وخبره جملة:{ لا تقم فيه أبداً} كما قاله الكسائي .والرابط هو الضمير المجرور من قوله:{ لا تقم فيه} لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ ،إذ التقدير: لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً ،أو في مسجدهم ،كما قدره الكسائي .ومن أعربوا{ أفمن أسس بنيانه}[ التوبة: 109] خبراً فقد بعدوا عن المعنى .
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار ،وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي .كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية .وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ،ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين .ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة .ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ،فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ،وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم ،ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة .فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم ،فبنوه بجانب مسجد قباء ،وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك .وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ،فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه .فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ،وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً .
والضرار: مصدر ضار مبالغة في ضر ،أي ضِراراً لأهل الإسلام .والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء .
والإرصاد: التهيئة .والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ،لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ ،فقوله:{ من قبلُ} إشارة إلى ذلك ،أي من قبل بناء المسجد .
وجملة:{ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} معترضة ،أو في موضع الحال .والحسنى: الخير .
وجملة:{ والله يشهد إنهم لكاذبون} معترضة .