ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد ، والنون الثقيلة عن سؤال النعيم . فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا:هل ناله من حلاله ووجهه أم لا ؟
فإذا تخلص من هذا السؤال ، سئل سؤالا آخر:هل شكر الله تعالى عليه ، فاستعان به على طاعته أم لا ؟
فالأول:سؤال عن سبب استخراجه .
والثاني:عن محل صرفه . كما في «جامع الترمذي » من حديث عطاء بن أبى رباح ، عن ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس:عن عمره:فيما أفناه ؟ وعن شبابه:فيما أبلاه ، وعن ماله:من أين اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟ وفيما ذا عمل فيما علم ؟ » .
وفيه أيضا:عن أبى برزة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره:فيما أفناه ؟ وعن علمه:فيما عمل فيه ؟ وعن ماله:من أين اكتسبه وفيما أبلاه ؟ » قال:هذا حديث صحيح .
وفيه أيضا:من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة - يعني من النعيم - أن يقال له:ألم نُصِحَّ جسمك ؟ ونرويك من الماء البارد ؟ » .
وفيه أيضا:من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال:«لما نزلت{ لتسألن يومئذ عن النعيم} قال الزبير:يا رسول الله ، فأي النعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان:التمر والماء ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أما إنه سيكون » وقال:هذا حديث حسن .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه نحوه . وقال:إنما هو الأسودان:العدو حاضر ، سيوفنا على عواتقنا . فقال صلى الله عليه وسلم:«إن ذلك سيكون » .
وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن ذلك سيكون » إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم ، وإما أن يرجع إلى السؤال ، أي إن السؤال يقع عن ذلك ، وإن كان تمرا وماء فإنه من النعيم .
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح - وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد - «هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة » ، فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه .
وفى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يجاء بالعبد يوم القيامة ، كأنه بِِذْج ، فيوقف بين يدي الله تعالى ، فيقول الله:أعطيتك وخَوَّلتك ، وأنعمت عليك ، فماذا صنعت ؟ فيقول:يا رب جمعته ، وثمرته ، فتركته أوفر ما كان ، فارجعني آتيك به . فإذا أعيد لم يقدم خيرا فيمضى به إلى النار » .
وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيقول الله:ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وترتع ، أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا ؟ فيقول:لا . فيقول له:اليوم أنساك كما نسيتني » ، وقال:هذا حديث صحيح .
وقد زعم طائفة من المفسرين:أن هذا الخطاب خاص بالكفار ، وهم المسئولون عن النعيم ، وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل ، واختار الواحدي ذلك ، واحتج بحديث أبي بكر رضي الله عنه:«لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم ، وبسر قد ذَنَّب ، وماء عذب ، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما ذلك للكفار » ، ثم قرأ:{ وهل نجازي إلا الكفور} [ سبأ:17] .
قال الواحدي:والظاهر يشهد بهذا القول ؛ لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم .
والمعنى أيضا يشهد بهذا القول ، وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم ، حيث أشركوا به وعبدوا غيره . فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم ، توبيخا لهم ، هل قاموا بالواجب فيه ، أم ضيعوا حق النعمة ؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم .
قال:وهذا معنى قول مقاتل ، وهو قول الحسن ، قال:لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار .
قلت:ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة ، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار ؛ بل ظاهر اللفظ ، وصريح السنة والاعتبار:يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له ، فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك .
ويدل على ذلك:قول النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة هذه السورة:«يقول ابن آدم:مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟الحديث » وهو في صحيح مسلم .
وقائل ذلك قد يكون مسلما ، وقد يكون كافرا .
ويدل عليه أيضا الأحاديث التي تقدمت ، وسؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفهمهم العموم ، حتى قالوا له:«وأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هو الأسودان » ، فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك . وقال:ما لكم ولها ؟ إنما هي للكفار . فالصحابة فهموا العموم ، والأحاديث صريحة في التعميم ، والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم .
وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي احتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح ، والحديث الصحيح في تلك القصة يشهد ببطلانه ، ونحن نسوقه بلفظه:
ففي «صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال:«ما أخرجكما من بيوتكما في هذه الساعة ؟ » قالا:الجوع ، يا رسول الله . قال:«وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ، قوما » ، فقاما معه . فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته . فلما رأته امرأته قالت:مرحبا وأهلا . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأين فلان ؟ » قالت:ذهب يستعذب لنا من الماء ، إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فقال:الحمد لله ، ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني . قال:فانطلق فجاءهم بعِذْقٍ فيه بُسْر وتمر ورطب ، فقال:كلوا من هذا . فأخذ المدية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إياك والحلوب » . فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا . فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما:والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم » .
فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب ، وأنه غير مختص بالكفار .
وأيضا:فالواقع يشهد بعدم اختصاصه ، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا ؛ بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر . وخطاب القرآن عام لمن بلغه ، وإن كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو متناول لمن بعدهم ، وهذا معلوم بضرورة الدين ، وإن نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين .
فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [ البقرة:183] ونظائره ، كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين .
فقوله:{ ألهاكم التكاثر} خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف ، وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله .
فإن قيل:فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه .
قيل:هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار ؛ لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد ، فخصوهم به .
وجواب هذا:أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان ، على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان . كقوله:{ وكان الإنسان عجولا} [ الإسراء:11]{ وكان الإنسان كفورا} [ الإسراء:67]{ إن الإنسان لربه لكنود} [ العاديات:6]{ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [ الأحزاب:72]{ إن الإنسان لكفور} [ الحج:66] ونظائره كثيرة .
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع ، والعمل الصالح ، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك ، ويعطيه إياه . وليس له ذلك من نفسه ؛ بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم ، والظلم المضاد للعدل ، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه ، لا من نفسه ، فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته ، التي هي له من نفسه ، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له ، وجعله مريدا للآخرة ، مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا ، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد .
وأما احتجاجهم بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال:
الوعيد المذكور مشترك ، وهو العلم عند معاينة الآخرة . فهذا أمر يحصل لكل أحد ، لم يكن حاصلا له في الدنيا ، وليس في قوله:{ سوف تعلمون} ما يقتضي دخول النار ، فضلا عن التخليد فيها . وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها ، فإن أهل الموقف يرونها ، ويشاهدونها عيانا . وقد أقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم:{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} [ مريم:71] .
فليس في جملة هذه السورة ما ينفي عموم خطابها .
وأما ما ذكره عن الحسن:لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، فباطل قطعا ، إما عليه ، وإما منه . والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده . وبالله التوفيق .