وقوله:( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) أي:ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك . ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز المقري ، حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خالد الخزاز ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة ، فوجد أبا بكر في المسجد فقال:"ما أخرجك هذه الساعة ؟ "قال:أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله . قال:وجاء عمر بن الخطاب فقال:"ما أخرجك يا ابن الخطاب ؟ "قال أخرجني الذي أخرجكما . قال:فقعد عمر وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما ، ثم قال:"هل بكما من قوة ، تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاما وشرابا وظلا ؟ "قلنا:نعم . قال:"مروا بنا إلى منزل ابن التيهان أبي الهيثم الأنصاري ". قال:فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا ، فسلم واستأذن - ثلاث مرات - وأم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام ، تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام ، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم ، فقالت:يا رسول الله ، قد - والله - سمعت تسليمك ، ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خيرا ". ثم قال:"أين أبو الهيثم ؟ لا أراه ". قالت:يا رسول الله ، هو قريب ذهب يستعذب الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله ، فبسطت - بساطا تحت شجرة ، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم ، فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حسبك يا أبا الهيثم ". قال:يا رسول الله ، تأكلون من بسره ، ومن رطبه ، ومن تذنوبه ، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا من النعيم الذي تسألون عنه "هذا غريب من هذا الوجه .
وقال ابن جرير:حدثني الحسين بن علي الصدائي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال:بينما أبو بكر وعمر جالسان ، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما أجلسكما هاهنا ؟ "قالا:والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع . قال:"والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره ". فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أين فلان ؟ "فقالت:ذهب يستعذب لنا ماء . فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال:مرحبا ، ما زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم . فعلق قربته بكرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا كنت اجتنيت "؟ فقال:أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم . ثم أخذ الشفرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إياك والحلوب ؟ "فذبح لهم يومئذ ، فأكلوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لتسألن عن هذا يوم القيامة . أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا ، فهذا من النعيم ".
ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان به ، ورواه أبو يعلى ، وابن ماجه من حديث المحاربي ، عن يحيى بن عبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بكر الصديق به ، وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بنحو من هذا السياق وهذه القصة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا سريج ، حدثنا حشرج ، عن أبي نصرة ، عن أبي عسيب - يعني مولى رسول الله - قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فمر بي ، فدعاني فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتى أتى حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط:"أطعمنا ". فجاء بعذق فوضعه ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب ، وقال:"لتسألن عن هذا يوم القيامة ". قال:فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض ، حتى تناثر البسر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:يا رسول الله ، إنا لمسئول عن هذا يوم القيامة ؟ قال:"نعم ، إلا من ثلاثة:خرقة لف بها الرجل عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر تدخل فيه من الحر والقر "تفرد به أحمد .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا عمار:سمعت جابر بن عبد الله يقول:أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبا ، وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا من النعيم الذي تسألون عنه ".
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة [ عن عمار بن أبي عمار ، عن جابر] به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا أحمد:حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن صفوان بن سليم ، عن محمود بن الربيع قال:لما نزلت:( ألهاكم التكاثر ) فقرأ حتى بلغ:( لتسألن يومئذ عن النعيم ) قالوا:يا رسول الله ، عن أي نعيم نسأل ؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟ قال أما إن ذلك سيكون ".
وقال أحمد:حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا معاذ بن عبد الله بن خبيب ، عن أبيه ، عن عمه قال:كنا في مجلس فطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا:يا رسول الله ، نراك طيب النفس . قال:"أجل ". قال:ثم خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعيم ".
ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن سليمان به .
وقال الترمذي:حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم الأشعري قال:سمعت أبا هريرة يقول:قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما يسأل عنه - يعني يوم القيامة - العبد من النعيم أن يقال له:ألم نصح لك جسمك ، ونروك من الماء البارد ؟ ".
تفرد به الترمذي . ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن العلاء بن زير به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير قال:قال الزبير:لما نزلت:( [ ثم] لتسألن يومئذ عن النعيم ) قالوا:يا رسول الله ، لأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ؟ قال:"إن ذلك سيكون ". وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث سفيان - هو ابن عيينة - به ، ورواه أحمد عنه ، وقال الترمذي:حسن .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال:لما نزلت هذه الآية:( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قالت الصحابة:يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه ، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم:قل لهم:أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني ، عن ابن أبي ليلى - أظنه عن عامر - عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:( [ ثم] لتسألن يومئذ عن النعيم ) قال:"الأمن والصحة ".
وقال زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) يعني:شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . رواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم ، عنه في أول السورة .
وقال سعيد بن جبير:حتى عن شربة عسل . وقال مجاهد:عن كل لذة من لذات الدنيا . وقال الحسن البصري:نعيم الغداء والعشاء ، وقال أبو قلابة:من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي . وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قال:النعيم:صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى:( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) [ الإسراء:36] .
وثبت في صحيح البخاري ، وسنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ ".
ومعنى هذا:أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا أبو حمزة ، عن ليث ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما فوق الإزار ، وظل الحائط ، وخبز ، يحاسب به العبد يوم القيامة ، أو يسأل عنه "ثم قال:لا نعرفه إلا بهذا الإسناد .
وقال الإمام أحمد:حدثنا بهز وعفان ، قالا:حدثنا حماد - قال عفان في حديثه:قال إسحاق بن عبد الله ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله عز وجل - قال عفان:يوم القيامة -:يا ابن آدم ، حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تربع وترأس ، فأين شكر ذلك ؟ "تفرد به من هذا الوجه .
آخر تفسير سورة "التكاثر "[ ولله الحمد والمنة]