هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس ، وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه .
[ أنواع القياس]
فإن القياس نوعان:
قياس طرد:يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه .
وقياس عكس:يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه .
فالمثل الأول:ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان ، فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ، ينفق كيف يشاء على عبيده ، سرا وجهرا ، وليلا ونهارا ، يمينه ملآ لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، والأوثان مملوكة لعابديها عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء لله ، ويعبدونها من دونه ، مع هذا التفاوت العظيم ، والفرق المبين ، هذا قول مجاهد وغيره .
وقال ابن عباس رضي الله عنه:هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، مثل المؤمن في الخير الذي عنده ، ثم رزقه منه رزقا حسنا ، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا ، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز ، لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده ، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟
والقول الأول:أشبه بالمراد ، فإنه أظهر في بطلان الشرك ، وأوضح عند المخاطب ، وأعظم في إقامة الحجة ، وأقرب نسبا بقوله:{ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} ، ثم قال:{ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [ النحل:73 . 75] .
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه:أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا ، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء .
فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه ، فذكره ابن عباس رضي الله عنهما منبها على إرادته ، لا أن الآية اختصت به .
فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن ، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله .
فصل
وأما المثل الثاني:فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا ؛ فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم ، لا يعقل ولا ينطق ، بل هو أبكم القلب واللسان ، قد عدم النطق القلبي واللساني ، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ، ولا يقضي لك حاجة . والله سبحانه حي قادر متكلم ، يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم .
وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد . فإن أمره بالعدل - هو الحق - يتضمن أنه:سبحانه عالم به ، معلم له ، راض به ، آمر لعباده به ، محب لأهله ، لا يأمر بسواه ، بل تنزه عن ضده ، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل . بل أمره وشرعه عدل كله ، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه ، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور ، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني ، والأمر القدري الكوني . وكلاهما عدل ، لا جور فيه بوجه ما ، كما في الحديث الصحيح «اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك » . فقضاؤه:هو أمره الكوني ، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . فلا يأمر إلا بالحق والعدل ، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل . وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم . فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدر .
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم . وهذا نظير قول رسوله هود عليه السلام:{ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [ هود:56] . فقوله:{ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} ، نظير قوله صلى الله عليه وسلم:«ناصيتي بيدك » ، وقوله تعالى:{ إن ربي على صراط مستقيم} ، نظير قوله صلى الله عليه وسلم:«عدل في قضاؤك » . فالأول ملكه ، والثاني حمده . وهو سبحانه له الملك وله الحمد . وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة ، وحكمة وعدل ، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به ، ولا يأخذه بغير ذنبه ، ولا ينقصه من حسناته شيئا . ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة ، فإن كونه على صراط مستقيم:يأبى ذلك كله .
قال محمد بن جرير الطبري:وقوله:{ إن ربي على صراط مستقيم} ، يقول:إن ربي على طريق الحق ، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه ، والمسيء بإساءته . لا يظلم أحدا منهم شيئا ، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به .
ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه:{ إن ربي على صراط مستقيم} ، قال:الحق ، وكذلك رواه ابن جريج عنه .
وقالت فرقة:هي مثل قوله:{ إن ربك لبالمرصاد} [ الفجر:14] .
وهذا اختلاف عبارة ، فإن كونه بالمرصاد:هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
وقالت فرقة:في الكلام حذف ، تقديره:إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه .
وهؤلاء ، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها ، فليس كما زعموا ، ولا دليل على هذا المقدر .
وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل ، وبين كونه على صراط مستقيم .
وإن أرادوا:أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا .
وقالت فرقة أخرى:معنى كونه على صراط مستقيم:أن مراد العباد ، والأمور كلها إلى الله ، لا يفوته شيء منها .
وهؤلاء:إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك . وإن أرادوا:أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ، ومن مقتضاه وموجبه:فهو حق .
وقالت فرقة أخرى:معناه كل شيء تحت قدرته وقهره ، وفي ملكه وقبضته .
وهذا - وإن كان حقا - فليس هو معنى الآية . وقد فرق هود عليه السلام بين قوله:{ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} ، وبين قوله:{ إن ربي على صراط مستقيم} ، فهما معنيان مستقلان .
فالقول قول مجاهد . وهو قول أئمة التفسير . ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه .
وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعوج الموارد مستقيم
وقد قال تعالى:{ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [ الأنعام:39] .
وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم ، فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله ، وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه:هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده ، من قول الحق وفعله ، وبالله التوفيق .
فصل
وفي الآية قول ثان مثل الآية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق .
أه{ إعلام الموقعين ح1 ص 191ص 196}
وقال في «مفتاح دار السعادة » .
فالمثل الأول:للصنم وعابديه . والمثل الثاني:ضربه الله تعالى لنفسه ، وأنه يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم .
فكيف يسوي بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء ؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده:هو غاية الحكمة والإحسان والعدل ، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم ، وأمرهم ونهيهم .
فدعوى المدعي:أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض ، ويسبي بعضهم بعضا:أكذب دعوى وأبطلها ، والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره ، والتنبيه عليه . والحمد لله الغني الحميد . فغناه التام فارق ، وحمده وملكه ، وعزته وحكمته وعلمه ، وإحسانه وعدله ، ودينه وشرعه ، وحكمه وكرمه ، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة ، والصفح عن المسيئين ، وتوبة التائبين ، وصبر الصابرين ، وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ، ويتطلبون مرضاته ، ويعبدونه وحده ، ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح ، ويجاهدون أعداءه ، فيبذلون دماءهم ، وأموالهم في محبته ومرضاته ليتميز الخبيث من الطيب ، ووليه من عدوه ، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج ، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب ، والحمد لأوليائه والذم لأعدائه .