ضرب الأمثال الصادقة
بعد أن نهاهم سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال التي شيدوا فيها الأحجار التي كانوا يعبدونها أخذ سبحانه وتعالى يبين لهم الأمثال التي تصور الحقيقة وتهدي إليها ، فقال تعالت كلماته:
{ ضرب الله مثلا عبدا مملوك لا يقدر على شيء ومن رقنه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 75 )} العبد هو الفتى المملوك ، وذكر وصف مملوك ليتميز عن الحر ، الذي لا مالك له ، وكان التمييز ضروريا ؛ لأن الجميع مملوك لله تعالى ، يستوى على التصرف في شيء من الأشياء وفي ذلك بيان لأنه مقيد ، قد وجد من مالكه أو عقد في رقبته ، وأثقله ، فهو لا يقدر على شيء مادي ، ولم تكن له إنابة من مالكه أو عقد مكاتبة ، يستطيع به التصرف ليطلق نفسه ، بل هو قن مقيد بالرق ، ومقيد بأنه لا سلطان به في التصرف ، أي فيه العجز المطلق .
{ ومن رزقناه منا رزقا حسنا} ، ( من ) هنا نكرة تدل على ما هو في مقابل المملوك ، وهو إلى المالك لكل تصرفاته التي يقدر على كل شيء ، ومع هذه القدرة التي ثبتت له بمقتضى الحرية رزقه الله تعالى رزقا حسنا ؛ ولذا قال تعالى:{ ومن رزقناه منا رزقا حسنا} والحسن هنا معناه الطيب في ذاته ، فليس خبيثا في سببه فسببه طيب حلال لا حرام فيه ولا شبهة حرام ، وإضافته سبحانه وتعالى إليه لبيان انه جاء إليه سهلا ميسرا من غير جهد ، وإن كان حلالا ، ولبيان أن كل الأرزاق من الله وليست الأسباب مؤثرة بإيجاد الرزق إنما هي أسباب جعلية وليست بأسباب حقيقية لأن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى ، فليس الزرع والسقي والرعي والبذر وحدهما ، بل السبب الأكبر هو رزق الله العليم القدير ،{ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( 58 )} [ الذاريات] .
وقد جعل الله تعالى الخير الذي يجئ من الرزق الحسن ، فقال تعالى:{ فهو ينفق منه سرا وجهرا} ، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، الإنفاق هو صرف المال في مصارفه التي لا يكون الصرف فيه إسرافا ، وأطلق في القرآن على الصرف في سبيل الخير ، فإذا أطلقت كلمة الإنفاق لا يكون إلا في الصدقات إلا إذا عنى الموضوع غيرها ، مثل قوله تعالى:{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله . . .( 7 )} [ الطلاق] فالإنفاق هنا في نفقة الزوجية ، وإن كان يومئ إلى أنها صلى وليست أجرا محضا ، كما يقرر الفقهاء .
وقوله:{ سرا وجهرا} ، يؤكد أنها للصدقات ، وإن السرية لها موضعها ، وخصوصا لأهل التجمل ذوي المروءات ، والجهر في موضعه عندما تكون دعوة إلى البر فإن الجهر يدعو إلى المنافسة{. . . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 )} [ المطففين] .
ثم قال تعالى مقررا النتيجة البديهية وهو أنهم لا يستوون فقال:{ هل يستوون} الاستفهام للإنكار ، أي إنكار الواقع ، وكان النفي بالاستفهام لتأكيد النفي كأن النفي مقرر بالبداهة ، وعند المخاطب ، فكأنه قد جاء من عنده ،{ الحمد لله} كان هذا تأكيدا للنفي وهو عدم التساوي ، أي انه يحمد الله تعالى للوصول إلى هذه النتيجة التي أخذت من إقرارهم ، ثم قال تعالى:{ بل أكثرهم لا يعلمون} ،{ بل} للإضراب عن علمهم البدهي الذي طمس فيه الهوى على مداخل الفكر والعلم ، وكان القرآن الكريم منصفا لحكم على الأكثر لا الجميع بأنهم لا يعلمون أي يطمس على قلوبهم بغشاء من الهوى المانع من إدراك الحقائق .
وكانت الموازنة بين اثنين في ظاهر اللفظ ، وهما العبد المملوك ،{ ومن رزقناه منا رزقا حسنا} ، ولكن لأن ( ما ) يدخل في عموم ما تدل عليه كثيرون ، كان الذين لا يستوون كثيرين فعاد الضمير بالجمع .
وبعد ذلك يقول هذه هي معاني الألفاظ وما تدل عليه بمفرداتها ، ولكن ما هو المثل ؟ إن المثل تشبيه حال بحال فما موضع التشبيه ، وما هو وجه التشبيه ؟ .
قال أكثر المفسرين:إنه تشبيه ففي حال عبادة الأوثان ، والشرك بالله تعالى بحال من يسوى بين العبد المملوك ، العاجز عن كل شيء ولحر المالك الذي رزقه الله رزقا حسنا ، أنهم لا يستوون بالبداهة ، فيكف يسوى أولئك المشركون بين الله خالق كل شيء وبين الأحجار التي يعبدونها .
واعترض على تخريج المثل هذا التخريج الرازي بأن العبد المملوك حي ، والأحجار لا حياة فيها ، وقد أجيب عن ذلك بأن التشبيه ليس بين الأجزاء ، إنما التشبيه بين حالين ، لا بين الأحجار والآدميين .
وقال ابن عباس:إن التشبيه بين الكافر والمؤمن ، فالكافر كالمملوك الذي لا يقدر على شيء وهو عاجز ، وبين من رزقه الله تعالى رزقا حسنا ، فهو كقوله تعالى:{. . .هل يستوي الأعمى والبصير . . .( 50 )} [ الأنعام] ،{. . .هل يستوي الذين يعلمون والين لا يعلمون . . .( 9 )} [ الزمر] ، وكذلك التشبيه في قوله تعالى في الآية الآتية:{ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم . . .} وهو فيها أوضح وكلاهما واضح ، والله أعلم .
ولولا أننا مقيدون إلى حد ما بما قاله من قبلنا لقلنا:إن الله تعالى قال من قبل ذلك بآيتين{ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} وفي هذه الآية والتي تليها ، يبين سبحانه كيف كان التفضيل في الرزق ، وهو أن الفقير اختبره الله تعالى بالعجز ، وبتقدير منه سبحانه وتعالى ، فضاقت أمامه السبل ، وأن الغنى آتاه الله تعالى قدرة على الكسب ومكن له أسباب الرزق ، وبذلك ينتهي البيان القرآني في زعمنا إلى تقرير حقيقتين ثابتتين:
الحقيقة الأولى – أن العجز والكسب والكيس بتقدير من الله وباختبار منه ، فليس لأحد أن يستطيل أو يستكبر فالله هو الرازق .
والحقيقة الثانية – أن الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان ؛ لأن الله تعالى خلق القوى متفاوتة ، والفرص متفاوتة ، والأسباب في الحياة مختلفة فكان جهلا أن يدعى مغرور أنه يذيب الفوارق بين الغنى والفقر ، وقد شاع هذا الغرور في هذه الأزمان كالذي جهل طبائع الإنسان فأفقر ناسا من ذوي الإنتاج ، وأغنى العجزة ، وكانت أسباب الرزق الحرام طاغية على الحلال المنتج .