فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر:هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي ؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة ، كان أمره فرطا .
ومعنى «الفرط » قد فسر بالتضييع ، أي:أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به ، وبه رشده وفلاحه ، ضائع ، قد فرط فيه .
وفسر بالإسراف ، أي:قد أفرط . وفسر بالإهلاك ، وفسر بالخلاف للحق . وكلها أقوال متقاربة .
والمقصود:أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات . فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه ، فإن وجده كذلك فليبعد منه ، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى - عز وجل – واتباع السنة ، وأمره غير مفروط عليه ، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه .
وقد سأل أبو العباس ثعلب عن قوله تعالى:{ أغفلنا قلبه عن ذكرنا} فقال:جعلناه غافلا . قال:ويكون في الكلام:أغفلته ، سميته غافلا:ووجدته غافلا .
قلت:«الغفل » الشيء الفارغ ، والأرض الغفل:التي لا علامة بها ، و«الكتاب الغفل »:الذي لا شكل عليه . فأغفلناه:تركناه غافلا عن الذكر فارغا منه . فهو إبقاء له على العدم الأصلي ؛ لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر ، فبقي غافلا ، فالغفلة وصفه . و«الإغفال » فعل الله فيه بمشيئته ، وعدم مشيئته لتذكره ، فكل منهما مقتض لغفلته ، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر ، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر .
فإن قيل:فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها ، أم إلى مشيئته لوقوعها ؟
قيل:القرآن قد نطق بهذا وبهذا ، قال تعالى:{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} [ المائدة:41] وقال:{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} [ المائدة:41] وقال:{ فمن يرد أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} [ الأنعام:125] .
فإن قيل:فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر ؟
قيل:الأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي ، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه ، فيبقى على العدم الأصلي . فإذا أضيف إليه ، كان من باب إضافة الشيء إلى دليله ، فعدم السبب دليل على عدم المسبب ، وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك ، وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا . وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه ، وتفريطه في أمره .
قال مجاهد:كان أمره فرطا:أي ضياعا .
وقال قتادة:ضاع أكبر الضيعة .
وقال السدى:هلاكا .
وقال أبو الحسن بن الهيثم:أمر فرط:متهاون به مضيع . والتفريط:تقديم العجز .
وقال أبو إسحاق:من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه .
وقال الليث:الفرط الأمر الذي يفرط فيه . يقال:كل أمر فلان فرط .
وقال الفراء:فرطا متروكا ، فرط فيما لا ينبغي التفريط فيه . واتبع ما لا ينبغي اتباعه ، وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه .