قوله: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) في سبب نزول هذه الآية روي عن سلمان الفارسي قوله: جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول الله ( ص ): عيينة بن حصن ،والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء ،يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك ،فأنزل الله الآية فقام النبي ( ص ) يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال:"الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ،معكم المحيا ،ومعكم الممات "{[2801]} .
هذه قاعدة من قواعد الإسلام الثابتة التي لا تتبدل ولا يأتي عليها الزمان ؛وهي تكريم الإنسان المؤمن أيما تكريم ،بغض النظر عن سائر أوصافه وأحواله من الفقر أو القلة أو الذلة .فما يعبأ الإسلام بتصورات البشر الدنيوية واعتباراتهم الاجتماعية ؛إذ يعظمون الأغنياء والرؤساء والكبراء وأولي المكانة والجاه ،ويحقرون الفقراء والعالة والصعاليك ،ويمتهنون المغلوبين والمقهورين من الخول والعبيد والملونين وإن كانوا من المؤمنين الطيبين !
لا يعبأ الإسلام بهذا التصور البشري القاصر المستهجن .إنما ينظر الإسلام للإنسان نظرة تقدير وتكريم لكونه إنسانا ( ولقد كرمنا بني آدم ) ثم يزيد الإسلام من تعظيم الإنسان إذ تحقق فيه سببان وهما الإيمان والعلم .فأكثر الناس إيمانا وأزيدهم علما لهو في ميزان الله مكرم مفضال ،سواء كان في واقعه الاجتماعي خادما أو مملوكا أو صعلوكا أو عائلا مفتقرا أو دميما ملهوفا رثَّ مبتذل اللباس .
هذه حقيقة يرسخها الإسلام في واقع المسلمين لتكون قاعدة أساسية لا محيد عنها .لذلك يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) أن يصبر نفسه مع الفقراء والمغلوبين والعالة من المؤمنين فلا يبرحهم أو يزدريهم ،كما سأله فريق من وجهاء قريش وهم يؤزهم إلى سؤالهم هذا تصورهم الجاهلي السقيم الذي يميزون فيه بين العباد تبعا للمال أو الجاه أو السلطان .وهو قوله: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( اصبر ) ،من الصبر ،وهو الحبس ؛أي احبس نفسك وثبتها مع المؤمنين الطائعين الذين يعبدون ربهم ( بالغداة والعشي ) أول النهار وآخره .والمراد جلوسه ( ص ) مع الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويتذللون له بالدعاء بكرة وعشيا سواء كانوا أغنياء أو فقراء ،أو ضعفاء ،أو أقوياء ،كبلال ،وعمار ،وصهيب ،وخباب ،وسلمان ،وابن مسعود وغيرهم من المؤمنين المستضعفين في تصور الجاهليين .
قوله: ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) ( ولا تعد ) ،أي لا تجاوز .عداه يعدوه أي جاوزه .والتعدي معناه مجاوزة الشيء إلى غيره .عدّاه تعدية فتعدى أي تجاوز .وعدّ عما ترى أي اصرف بصرك عنه{[2802]} والمراد: لا تعل عيناك عنهم ،أو لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أهل الدنيا ( تريد زينة الحياة الدنيا ) في موضع نصب للحال .أي لا تصرف بصرك عنهم مبتغيا غيرهم من ذوي الهيئات والزينة وأولي الرياش وحسن المظهر .
قوله: ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أنه قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي .وذلك انه دعا النبي ( ص ) إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ،فأنزل الله الآية{[2803]} .والمعنى: لا تكن مطيعا لمن ختمنا على قلبه فبات غافلا عن الإيمان وعن ذكر ربه ،كأمية بن خلف وأمثاله من أولي القلوب الغُلْف التي طبع عليها فلا تستجيب لذكرى ولا تتعظ من عبرة .وهو مع ذلك لا يتبع غير هواه ؛إذ يؤثره على التوحيد وعلى الحق ،فاختار الشرط والباطل .( وكان أمره فرطا ) فرط ،بضمتين ؛أي مجاوز للحد .والمراد: أنه سادر في الباطل ،مجاوز عن الحق ،نابذ له وراء ظهره{[2804]} .