{بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}: في الصّباح والمساء .
{فُرُطًا}: مجاوزاً للحد .
الرساليون قوة الإسلام الحقيقية
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشيِّ} إنها كناية عن التزام الموقف الرسالي للمؤمنين الضعفاء ،الذين آمنوا بالله وبالرسول من موقع اليقين ،واتبعوا النبي من موقع الإخلاص ،وانفتحوا على الله سبحانه من خلال وعيهم لحقيقة العبودية في وجودهم أمام الألوهية في ذات الله ،فابتهلوا إليه في حالات الخشوع ،ودعوه في مواقف الخضوع ،فهم يمثلون القوّة الحقيقية للإسلام في حركته ،لأنهم الذين يعيشون فكره بعمقٍ وروحانيته بصفاءٍ ،ويتحركون في خطّه بإخلاصٍ ،ويواجهون التحديات في ساحة الصراع بقوّةٍ .وهؤلاء هم الامتداد الرسالي في حركة الحاضر والمستقبل ،لأنّ الرسالة لا تمثّلفي وعيهمالفرصة السانحة للحصول على الامتيازات الاجتماعية أو المنافع الشخصية ،بل تمثلفي حركتهمالانطلاقة الواسعة نحو المسؤولية القائمة على أساس التضحية بكل شيءٍ في سبيل الله من أجل خدمة الحياة والإنسان ،في ما يريد الله للعاملين أن يحققوه من ذلك .
وهكذا يريد الله من رسوله ،ومن كل داعيةٍ ،أن يحبس نفسه مع هؤلاء ،ويقربهم إليه ،ويعيش معهم ،ويصبر على مشاكلهم ،ويتحمّل سلبياتهم ،لأنهم يعيشون مع الله في حياتهم وهو ما يمثله انقطاعهم إليه في الدعاء ،في مواقع عبادته في الصباح والمساء{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ولعله كنايةٌ عن إرادتهم لله وحده في كل وجهتهم في الحياة ،سواءٌ في التزامهم الفكري أو العاطفي أو العملي ،أو في اتجاههم للحصول على رضاه ومحبته ،فهم في التزامهم وعملهم لا يلتفتون إلى غيره ،فالله هو غاية الغايات في حياتهم ،فمنه تتحرك بداية الحياة في كل خطواتهم ،وإليه ينتهي كل هدف وكل أمر ...وهذا هو الخط الذي يريد للدعاة أن يلتزموه في اختيار المجتمع الذي يكونون جزءاً منه ،أو يلتزمون حركته ،أو يتعاطفون معه .إنه المجتمع الذي يخلص أفراده لله في الفكر والروح والممارسة ،لأنه هو الذي يعطي لهم النمو الروحي من خلال الأجواء الروحية ،ويحقق لهم الشعور بالثقة والثبات في الموقف من خلال القوة التي يعيشها المؤمنون ويمارسونها في داخله ،وبذلك يكون المجتمع قوةً لهم كما يكونون قوةً له ،من خلال ما يعطونه من فكر أو يثيرونه في داخله من مشاعر وأجواء وقضايا .
{وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تصرف عيناك عنهم فتتركهم إلى مواقع الغنى والثروة والجاه والأجواء اللاهية العابثة التي تنادي الإنسان ليلهو ويعبث ويستمتع ويتزيَّن ويستسلم للشهوات ويستريح للمواقع الطبقية التي يعيشها مجتمع الامتيازات الذي يتفاضل فيه الناس بالمال والجاه والنسب ونحو ذلك ،فإن الاتجاه إلى هذا المجتمع ،والاستسلام له ،يمثل لوناً من ألوان البعد عن روح الرسالة ،والانحراف عن خط الله ،ويؤديبالنهايةإلى احتقار المجتمع الفقير المؤمن ،والضيق به ،والنفور منه ،الأمر الذي قد يساهم في إضعاف الروح الرسالية لدى الرساليين ،وفي الإقبال على الأجواء اللاهية المثيرة التي تربط الإنسان بالجانب المنحرف من الحياة ،على أساس القيم المنحرفة التي يلتزمها مجتمع اللهو والعبث .
روحيّة مستكبرة
{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} من هؤلاء الذين استسلموا للغفلة في حركة وجدانهم الفكري والروحي ،فلم ينفتحوا على الله من موقع الفكر والروح ،ولم يصغوا بأسماع قلوبهم إلى آياته ،ولم يلتفتوا إلى مواقع قدرته وأسرار عظمته ،وعاشوا أجواء اللامبالاة أمام كل دعوات الحق والإيمان ،واستراحوا لما اعتادوه من أوضاع وعادات وتقاليد ،ولما حملوه من أفكار ومشاعر ،فلا يقبلون أيّ تغييرٍ أو تبديلٍ لذلك ،وهذا هو المراد من إغفال الله لقلوبهم عن ذكره ،فليس المقصود أن الله يريد ذلك لهم بطريق الجبر الذي لا يملكون معه الاختيار ،بل المراد حصوله من خلال قانون السببية الذي يجعل الغفلة نتيجةً حتميةً للسلوك اللاهي المتمرد على كل دعوة للفكر وللحوار ،تماماً كما في نسبة كل الأفعال الإنسانية إلى الله ،باعتبار أن حركة السببية في حياتهم التي تربط النتيجة بالمقدمات ،هي التي أودعها الله في كيانهم ،في الوقت الذي كانت حركة الأسباب بيد الإنسان .فالحتمية إنما هي في طبيعة السببية لا في حركة السبب .
لا تطعيا محمدهؤلاء الغافلين عن ذكر الله ،الذين تقودهم غفلتهم إلى الاستغراق في المعاصي والاستسلام للانحراف ،ولا تُقبل على أيّ واحد منهم ،لأنه بسلوكه يبتعد عن الله ،ويقترب من الشيطان .{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} فلم ينطلق في حياته من قاعدة ثابتة تحكم كل تصرفاته وأوضاعه ،بل انطلق ذات اليمين وذات الشمال ،تبعاً لهواه الذي يتغيّر حسب تغير الظروف والأوضاع .{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} متجاوزاً لحدود الحق في أفكاره وأقواله وأفعاله ،ومنحرفاً عن الصراط المستقيم .فإن إطاعته والانسجام معه ،يعني الالتزام بخط الانحراف الذي يمثله ،لأن التفاصيل الجزئية تتبع القاعدة الكلية في طبيعة الاستقامة والانحراف .
وهكذا رأيناكما جاء في مناسبة النزولهذه الروحية المستكبرة المتحركة من الموقع الطبقي للمجتمع الذي يحتله هؤلاء ،ورأينا كيف أرادوا أن يثيروا هذا الموقع في ساحة الإسلام ،ليؤكدوا التمايز بين مجتمع المترفين ومجتمع الفقراء ،فيعطي النبي ( ص ) لهؤلاء دوراً يحتفظ لهم بخصوصياتهم وامتيازاتهم ،ويعطي الآخرين دوراً يشرف فيه على أوضاعهم ويحفظ لهم كرامتهم ،أو يطرد النبي ( ص ) الفقراء من ساحة الإسلام ،ليكون الإسلام دين الأشراف من الفئة العليا المميزة في المجتمع ،ليمنحوه موقعاً متقدماً من خلال الموقع المتقدم الذي يملكونه .
التقوى أساس في التفاضل
ولكن المسألةفي هذا الجوليست مسألة مجلسٍ لهؤلاء أو مجلسٍ لأولئك ،ليكون ذلك أساساً لحل المشكلة التي أثارها الأشراف المترفون ،بل هي مسألة القيمة الإسلامية الروحية التي أرادها الله للمجتمع في دائرة العلاقات الإنسانية ،وهي المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات في ساحة القانون ،واعتبار التقوى التي تمثل الإيمان العملي هي الأساس في التفاضل ،بعيداً عن أيّ موقع طبقي أو ماليّ أو اجتماعي ،أو غير ذلك ...فإن الاستجابة لهؤلاء تعني الإقرار لهم بالنظرة الفوقية التي ينظرون بها إلى المؤمنين الفقراء ،واعتبار الامتيازات التي يدعونها لأنفسهم حقاً شرعياً لهم على الآخرين ،ما يؤدي إلى التنازل عن حركة القيمة الروحية الإنسانية في حياة الناس ،وهذا ما لا يمكن الموافقة عليه ،ولهذا كان جوّ الآية يوحي بالرفض لهؤلاء الأشراف ،والإهمال لهم والبعد عنهم في مواجهة رفضهم للمساواة مع المستضعفين المؤمنين ،تأكيداً على أن قيمة الإيمان المنفتح على الله من موقع الإخلاص هي أعلى من كل قيمة أخرى ،وعلى أن مهمة الرسول ،أو الداعية ،أن يلتزم خط المخلصين من المؤمنين ويرعاهم ،لأنهم الأساس في انطلاقة المجتمع الإسلامي نحو التوازن والتكامل على خط الإسلام ،لأن الإيمان يمثلفي وجدانهمالقناعة الفكرية والروحية التي يعيشون الحياة من أجلها ،بينما يمثل الإيمانللمترفينالموقع الاجتماعي القويّ الذي فرض نفسه على الساحة ،ويريدون أن يتخذوا لأنفسهم مكاناً داخله ،ليضيفوا على امتيازاتهم القديمة امتيازات جديدة ،من خلال ما يمثله الإسلام من مركز قوّة جديد ،ولهذا فهم يتعاملون معه من مواقع الخارج عن عمق الذات ،بينما يتعامل المؤمنون المستضعفون معه من مواقع العمق الداخلي للذات .وهذا ما يجعل المترفين يبحثون في بعض أحكام الإسلام عمّا يتخذونه وسيلة لتبرير ترفهم ولهوهم وعبثهم ...ولو كان ذلك بطريقة التحريف واللعب على النصوص ،بينما يبحث المؤمنون عن أفضل الطرق لتطبيق أحكام الله ،ولتغيير أوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم من خلال ذلك ،وللاحتياط في تركيز المواقف على خط الشريعة ،بعيداً عما إذا كان ذلك منفعةً لهم أو لا .
استيحاء الآية في حركة الواقع ؟
وقد نستوحي من هذه الآية كيف يتحرك المؤمنون العاملون ،من علماء أو دعاة ،في مواجهة الإغراءات التي يقدمها إليهم المجتمع المنحرف ،ليكونوا جزءاً منه ،ولينسجموا مع أوضاعه ،وليحصلوا على امتيازاته ...ما يفرض عليهم أن يقدموا كثيراً من التنازلات في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم ،وبذلك يبتعدوننفسياًعن أجواء المستضعفين ،وينظرون إليهم نظرة مستعلية ،انطلاقاً من المواقع الجديدة التي ارتفعوا إليها ،عندما يتحول الموقع الديني إلى مركز من مراكز النفوذ الاجتماعي أو الرسمي الذي يُعطي للشخص الذي يحتله هالةً كبيرةً تفصله عن الجو الإيماني الفقير .وقد يؤدي ذلك إلى الابتعاد عن المواقف الحاسمة في طرح الإسلام بشكل حاسم واضح ،في مواجهة الطروحات الكافرة أو الضالة ،لأن ذلك قد يسيء إلى نظرة المجتمع الرسمي إليهم ،الذي لا يتقبل أن يقدّم الإسلام كحلٍّ شامل للحياة في مقابل الحلول الآخرى ،بل يريد له أن يقدّم كدين بمعناه التقليدي البعيد عن الحياة وعن حركة التحديات على صعيد الواقع والإنسان .
إننا نلاحظ التأكيد على هذا الجانب ،من أجل أن يبتعد العاملون عن التجربة القاسية التي تبتعد بهم عن الاتجاه الصحيح إذا سقطوا أمامها ،ليحافظوا على جدّيتهم في خط الالتزام ،ورساليتهم في خط الدعوة إلى الله ،وانضباطهم في حركة الممارسة ،وليكونوا القاعدة التي تغير المجتمع بدلاً من أن تكون جزءاً منه .
سؤال وجواب
وربما يتصور البعض من العاملين أن الاندماج في المجتمع المترف يساعد على ربح مواقع متقدمة للإسلام ،وذلك لما يفتح لهم ،من خلالهم ،من آفاقٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ ،مما يعطي الإسلام قوّةً جديدةً في مواجهة الكفر .وقد يساهمإلى جانب ذلكفي الاستفادة من إمكاناتهم الاقتصادية في تشجيع المشاريع الخيرية العامة ،التي يقوم بها العاملون من أجل حل المشاكل الاجتماعية المعقّدة ،ما ينعكس إيجاباً على حياة المستضعفين الذين يستفيدون من الخدمات التي تقدمها تلك المشاريع لهم .
ولكن هذا التصور ليس دقيقاً ،بل يحمل بعض الخلل في تفاصيله ،لأن المسألة التي يثيرها القرآن الكريم ،في ما نريد أن نستوحيه من علاقات الداعية بالناس ،هي قضية عدم الاندماج في المجتمع المترف اللاهي ،البعيد عن روحية الإيمان وفكره ،وإهمال المجتمع المؤمن المستضعف الذي يحمل مسؤولية الدعوة في خط الإسلام ،لأن ذلك يؤدي إلى كثير من السلبيات على صعيد مصداقية الداعية ،ومسؤوليته الإسلامية ،وروحانيته الإيمانية ،وتحوّله إلى شخصية اجتماعية ،تتحرك من خلال قيم المجتمع المنحرف ،وتمنحها شرعيةً إسلامية من خلال الموقع الرسمي .
من أساليب الانحراف في الإغراء
ولعلّ من الأساليب التي قد يلجأ إليها المجتمع المنحرف لاحتواء العاملين الإسلاميين ،هو أسلوب التلويح بالإمكانات التي يملكها هذا المجتمع ،لمساعدة الأهداف المتنوعة للعمل الإسلامي على مستوى الدعوة والحياة ،فينطلق إليها العاملون من موقع الإخلاص ،ولكن اللعبة تبدأ في الالتفاف عليهم ،والدوران حولهم ،من أجل أن تحاصرهم وتجمِّد مشاريعهم ،وتجعلهم لاهثين وراء استكمال هذا المشروع أو ذاكٍ ،عندما تقدم لهم المساعدات على دفعات ،من أجل أن تبقى الساحة خاضعة لهم بطريقةٍ وبأخرى .وبذلك تأكل الحركة الإسلامية أهدافها ،عندما تتحول الوسائل إلى أهداف ،وتغيب الأهداف في أجواء اللعبة المجنونة للمنحرفين .
إننا لا نمانع من الاستفادة من الفرص الاجتماعية والثقافية والمادية والسياسية التي يمكن لهذا المجتمع أن يقدمها إلينا ،لأننا لا ندعو إلى الانعزال الكامل عنه ،بل كل ما نريد أن نؤكده ،أن يكون للعاملين وعي الواقع ،من خلال وعي حركة اللعبة في داخله ،من أجل أن يواجه الموقف بطريقة ذكية واعيةٍ تلتف على اللعبة الخادعة لتعطل حركتها ،بدلاً من أن تسمح لها بالالتفاف عليها .
إن خلاصة الفكرة هي أن يكون مجتمع الإيمان هو الساحة التي يحترمها العاملون الدعاة إلى الله ،ويتحركون فيها من موقع أن الإيمان هو القيمة ،وليس هناك شيء آخر يقترب من مستواها أو يعلو عليها ،بحيث يكون اللقاء بالآخرين من داخل حركة هذا المجتمع لا من خارجه بطريقة مضادّة له .