وفي ضمن هذا الخطاب:ما هو كالجواب لسؤال مقدر ، أن في إعدام هذه البنية الشريفة ، وإيلام هذه النفس وإعدامها في عدم مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل ، فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء ، وبهرت حكمته العقول ؟ فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى:{ ولكم في القصاص حياة} .
وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كفّ عن القتل وارتدع ، وآثر حب حياته ونفسه،فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله .
ومن وجه آخر:وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته . وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره ، وتشتد مؤنته ، فشرع الله تعالى القصاص ، وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ، ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ، ولم تكن الحياة في القصاص من حيث إنه قتل ، بل من حيث كونه قصاصا ، يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره ، فتضمن القصاص الحياة في الوجهين .
وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز . والبلاغة والفصاحة ، والمعنى العظيم .
فصدر الآية بقوله:{ ولكم} المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم ، عائدة إليكم ، فشرعه إنما كان رحمة بكم ، وإحسانا إليكم ، فمنفعته ومصلحته لكم ، لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه .
ثم عقبه بقوله:{ في القصاص} إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل ، وهو أن يفعل به كما فعل بالمقتول .
و«القصاص » في اللغة:المماثلة ، وحقيقته راجعة إلى الإتباع ، ومنه قوله تعالى:{ وقالت لأخته قصيه} [ القصص:11] أي اتبعي أثره . ومنه قوله:{ فارتدا على آثارهما قصصا} [ الكهف:64] أي يقصان الأثر ويتبعانه .
ومنه:«قص الحديث » و«اقتصاصه » ؛ لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر ، فسمى جزاء الجاني قصاصا ، لأنه يتبع أثره ، فيفعل به كما فعل ، وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل ، فيقتل بمثل ما قتل به ، لتحقيق معنى القصاص .