/م178
ثم قال تعالى:{ ولكم في القصاص حياة} وهو تعليل لشريعة القصاص وبيان لحكمته ، وقدم عليه العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به ، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه .وبيان الأسباب والحكم لوضع الأحكام العملية ، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية ، بهذه يعرف الحق من الباطل ، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح ، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه ، وأدعى إلى الرغبة في العمل بهوقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى ، وعبارة لا تحاكى ، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن ، التي تعجز في التحدي فرسان البيان ، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص ، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره ، ولا يجهل سره .
ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز ، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها ، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها ، وهي قولهم:القتل أنفى للقتل .وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان ، ويفصح به اللسان ، لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم:قتل البعض إحياء للجميع .وقولهم أكثروا القتل ليقل القتل ..وأجمعوا على أن كلمة:القتل أنفى للقتل .أبلغها ، وأين هي من كلمة الله العليا ، وحكمته المثلى ؟
قال الإمام الرازي:وبيان التفاوت من وجوه أحدها:أن قوله:{ ولكم في القصاص حياة} أخصر من الكل ، لأن قوله:( ولكم ) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، وإذا تأملت علمت أن قوله:{ في القصاص حياة} أشد اختصارا من قولهم:القتل أنفى للقتل .أي لأن حروفه أقل .وثانيهما:أن قولهم:القتل أنفى للقتل .ظاهرة يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال .وقوله:{ في القصاص حياة} ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة وثالثها:أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل وليس في الآية تكرير .ورابعها:أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل ، والآية تفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهي أجمع للفوائد .وخامسها:أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى .وسادسها:أن القتل ظلما قتل مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل سبب لزيادة القتل ، وإنما النافي لوقوع القتل هو المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا .فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب .اه باختصار وتصرف يسيرين .
وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال الأول:قلة الحروف فإن الملفوظ هنا ( أي في الآية ) عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا .الثاني:الاطراد إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل ، فإن القتل ظلما أدعى للقتل .الثالث:ما في التنوين ( حياة ) من النوعية أو التعظيم .الرابع:صنعة الطباق بين القصاص والحياة فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها .الخامس:النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته .السادس:الغرابة من حيث جعل الشيء حاصلا في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات .السابع:الخلو عن التكرار مع التقارب ، فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا .الثامن:عذوبة اللفظ وسلاسته ، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة ، إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولاشك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام .التاسع:عدم الاحتياج إلى الحيثية ( أي التعليل ) وقولهم يحتاج إليها .العاشر:تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الكلام المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك ، وقولهم لا يشمله .الحادي عشر:خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا .الثاني عشر:اشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لمما يليق بهم .الثالث عشر:خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محالإلى غير ذلك .فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته ، اه .
وأقول إن الآية على كونها أبلغ ، وكلمتها أوجز ، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها ، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم ، وهو مساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة ، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض ، وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر فيكون المعنى:إن قتلنا لعدونا إحياء لنا ، وتقليل أو نفي لقتله إيانا ، وأين هذا الظلم من ذلك العدل ؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات ، وأن القصاص وسيلة من وسائلها ، لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه ، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع ، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوهوفي الآية من براعة العبارة ، وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة ، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم ، هذا وإن دول الإفرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها .وذلك شأنهم مع الضعفاء ، كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الأسماء ، فأين هي من عدل الإسلام ، ومساواته بين جميع الأنام ؟
قال تعالىبعد هذا البيان ، المتضمن للحكمة والبرهان{ يا أولى الألباب} فخص بالنداء أصحاب العقول الكاملة ، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها ، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها ، وهو مرتبتان:القصاص وهو العدل ، والعفو وهو الفضل .كأنه يقول:إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة ، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام ، وما فيها من المنفعة للأنام ، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان ، فهو بلا لب ولا جنان ، ولا رحمة ولا حنان .
وقوله{ لعلكم تتقون} جعله الجلال تعليلا لشرع القصاص وقدر له ( شرع ) أي لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم ، لعلكم تتقون الاعتداء ، وتكفون عن سفك الدماء ، وقال الأستاذ الإمام:إن هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية ، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها{ كتب عليكم} ويمكن أن يستغني عن تقرير ( شرع ) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله:{ ولكم في القصاص حياة} أي ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء ، وسائر ضروب الاعتداء ، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها ، والاحتراس من غوائلها .